في البداية أود أن استحضر كتمهيد للموضوع بعض الحيثيات التي أحاطت بقطاع التعليم في المغرب منذ نشأته ، ثم سأشير باختصار شديد إلى بعض المحطات التي شهدتها كرونولوجيات الإصلاحات التربوية .بعد خروج الاستعمار الفرنسي و الأسباني كان بالطبع لا بد من اعادة بناء الكيان المغربي بكافة قطاعاته العامة بما في ذلك قطاع التربية و التعليم الذي يعتبر بمثابة القلب النابض للمجتمعات ، إذا فبعد ما كانت الدولتين الاستعماريتين الأوربيتين هما اللتان تتوليان عملية تسيير و توجيه المنظومة التعليمية وفق مرجعيتهما الثقافية و الفكرية و الايديولوجية و هو ما كان يخدم بدون شك مصالحهما الاستعمارية ، بعد ذلك و بمقتضى معاهدة ايكس ليبان التي وضعت زمام الأمور في يد ما يسمى " الحركة الوطنية " التي منحت لنفسها مشروعية تدبير الاوراش الإصلاحية أو التأسيسية لبناء صرح مغرب ما بعد " الاستقلال " فبالإضافة إلى كون القطاع - حسب تعليق بعض المحللين - كان خاضعا للدولتين الاستعماريتين الأوربيتين خاصة فرنسا ، و بالتالي ظل على الدوام كصورة مماثلة لنظامها التعليمي الذي أسسته في عهد" الحماية " باستثناء بعض الترقيعات السطحية البسيطة ، فانه من جهة أخرى كان خاضعا لسلطة التوجهات السياسية القومية و الأصولية التي سيطرت على أفراد " الحركة الوطنية " بسبب ولائهم لجهات معينة . و بناءا على ذلك تم إغراق المنظومة التربوية في المغرب بمجموعة من الأساطير و المغالطات التي تخدم أهداف و مصالح ضيقة ، و في المقابل إغفال المصلحة العامة للشعب المغربي التي تنبني على حاجيات محيطهم الاجتماعي و الاقتصادي و الثقافي ... و هو الأمر الذي حال دون تحقيق النهضة المنشودة باعتبار انه - كما سلفت الذكر في المقدمة - يعد القطاع التربوي أداة أساسية تساعد على ارتقاء و تقدم الشعوب و هو ما يفسر الاهتمام الكبير الذي توليه له الشعوب ، بحيث تخصص له ميزانيات ضخمة ، و يخضع لمراقبة صارمة لصيانته و جعله بالدرجة الأولى مرتبطا بالمحيط و حاجياته مما يضمن فعاليته و أهميته ، لكن عكس ذلك فانه في المغرب لم يستطع تحقيق تلك الغاية بل يمكن القول انه قاد المتعلمين نحو متاهات فارغة الأهمية .
فمن أهم المرتكزات التي قامت عليها المدرسة بالمغرب منذ تأسيسها ما يسمى بالمبادئ الأربعة : التعريب و التوحيد ثم التعميم و المغربة ، وهي التي صاغها أعضاء " الحركة الوطنية " كأهداف نهائية مقدسة ، وسيتم تفعيلها و تداولها لحقب كثيرة متتالية على الرغم من ثبوت عدم جدواها و استحالة تحقق بعضها من خلال التجارب ، فمثلا رغم بذل جهود مضنية لإنجاح مبدأي التعريب و التوحيد فان أي منهما لم يتحقق إلى حدود يومنا هذا بغض النظر عن حمولتهما الايديولوجية ، إذ تسائل الكثيرون عن الغاية من مبدا التوحيد سوى استئصال وحدة اللغة الامازيغية التي كانت حاضرة في الفترة الاستعمارية الفرنسية و لو بشكل محتشم و مغرض ، ويتجسد ذلك في " كوليج ازرو " ، ونحن نعلم انه في مقابل إلغاء تلك الوحدة بقيت جميع الوحدات التي كانت حاضرة بل و أضيفت لها وحدات أخرى جديدة بحيث هناك وحدة الفرنسية و الأسبانية و الإنجليزية و العبرانية و الفارسية ... الخ . أما بالنسبة لمبدا التعريب فحدث و لا حرج ، بحيث رأينا كيف أن الإنسان و المحيط المغربيين هما المستهدفان بشكل يتنافى مع ثقافة حقوق الإنسان بمواثيقها التي تحتويها الجهات الرسمية في بلادنا .
وعلى هذا الأساس لا يمكن أن ننكر انه كانت آمال الشعب المغربي كلها معلقة على ما ستقوم به تلك الحركة ، لكن و بناءا على استقراء للأوضاع فإنها فشلت في تسوية جميع الأمور العالقة و التي بقيت متأزمة . ومنها على الخصوص قطاع التعليم ، خاصة في علاقته بالهوية الوطنية ، أو بمعنى أخر مدى ارتباطه بالمحيط السوسيو ثقافي و اللغوي و التاريخي المغربي ، فلم يتم تسوية هذا الأمر على الرغم من أن المنظومة منذ إحداثها شهدت كثير من الإصلاحات والتي تعتبر من جهة دليلا واضحا على أن القطاع متأزم ، و أن هناك فشل دريع في ضبطه ، ومن جهة ثانية هناك تعليقات كثيرة مفادها أن تلك الإصلاحات لم تكن منسجمة ولا يستفيد أخرها من سابقها و بالتالي فإنها تسقط دائما في نفس المتاهات.
وبالنسبة لتلك الإصلاحات فمنذ 1957 ظهر أول إصلاح تربوي وهو الذي الغي فقط بعد سنة من تداوله ، ذلك بمقتضى الإعلان عن إصلاح أخر بديل سنة 1958 ، وفي سنة 1964 تم تنظيم مناظرة دراسية في المعمورة لتدارس الأخطاء الحاصلة في المنظومة التعليمية لكن لسوء الحظ لم تؤخذ المناظرة بعين الاعتبار ، وتم تجاوزها بقدوم المخطط الخماسي 1973 - 1977 ، وظهر بعد تنفيده انه لم يستطع الحد من الأزمة المستفحلة و بعده جاء مخطط 1981 - 1985 الذي أنشئ على أساس توصيات لقاء افران في صيف 1980 ، لكن سرعان ما تم التراجع عنه هو الاخر سنة 1983 قبل انتهائه ، و انطلاقا من ذلك الحين سيظهر توجه اخر يعتمد أسلوب الإجراءات الآنية التي تعتمد سياسة الترقيع بحيث تبدأ بقدوم وزير ما يقترحها و ما أن تنتهي ولايته حتى يتم إلغائها ، بمعنى أنها عبارة عن إجراءات تبدأ من الصفر دون أن تاخد ما سبق بعين الاعتبار .
عموما فالمنظومة التربوية في المغرب ظلت دائما وفية لتوجهاتها التقليدية المعروفة التي تم فرضها منذ البدايات الأولى ، و هي توجهات تلزم المعنيين باستيراد الخطط الإصلاحية من الخارج كإجراءات جاهزة يتم إسقاطها بشكل عشوائي على الأجيال المغربية التي تنتمي إلى وسط خاص له خصوصيات مخالفة و متميزة عن غيره ، وفي هذا الصدد ذهب كثير من الباحثين إلى أن مجموعة من المشاكل المزرية التي أثقلت كاهل المجتمع المغربي اجتماعية و اقتصادية و ثقافية ترجع بدون شك إلى طبيعة هذه المنظومة التعليمية بحمولتها الإيديولوجية التي تفشل في التأثير الايجابي المنشود في الأوضاع .
إذا فعلى مستوى الكتابات النقدية الموجهة لقطاع التعليم ، فكثير منها أشارت إلى انه من اجل إنجاح أي إصلاح لا بد له من التوفر على شروط أساسية بالنسبة للاستاذ جغايمي جامع أوردها كما يلي ، بحيث يجب أولا أن تكون هناك رغبة حقيقية في الإصلاح ثم التجرد من الذاتية و الفكر الأحادي الضيق ، و التحلي بالموضوعية ، ومحاولة الوقوف على أسباب الفشل و ضبط مكامن الخلل باعتبار أن هناك من لازال يعتقد أن موقع الازمة يكمن فقط في الجانب التطبيقي و آلياته أي الجانب الهيكلي والياته التنفيذية و يغفلون المصدر الحقيقي الأكثر حساسية، فالأزمة هي شاملة لا يمكن تجزئتها ، و بالإضافة إلى ما سبق هناك من أكد على ضرورة إشراك جميع المعنيين بالأمر داخل المجتمع في تدبير الإصلاحات و التخلي عن جميع الخلفيات و المواقف المتجاوزة و التحلي بنظرة علمية و منطقية حيال الامور من خلال محاولة الانطلاق من واقعنا و خصوصياتنا التي تميزنا و إمكانياتنا الذاتية و حاجياتنا و ذلك يفترض بالطبع التخلي عن السياسة التي عملت على تغييب البيئة المحلية الوطنية و إقصاؤها ، وبالتالي يجب ان ندرك ان المشاريع الإصلاحية الجاهزة المستوردة سواء من الشرق او من الغرب لا يمكن الا ان تكون مصدرا لشلل و فشل القطاع و عليه فلا بد من التحلي بروح وطنية حقيقية و نية و رغبة اكيدة في الإقلاع بالقطاع إلى مكانة يكون فيها قادرا على احترام مشاعر و خصوصيات المغاربة و على خدمة التنمية الشاملة المبنية على أسس حقيقية واقعية ثم على ترقية الإنسان المغربي فكريا و علميا .
و للتوضيح فحينما يتم الحديث عن أهمية احترام الوسط السوسيو ثقافي و اللغوي و التاريخي الحقيقي للمغرب في الإصلاحات و في التوجهات و المبادئ العامة التي تحكم القطاع ، ذلك لان المدرسة في المغرب ظلت دائما تخلق مسافة بعيدة بين ما تمليه على المتعلمين من قيم و معارف و لغات وبين الواقع الذي يعيش فيه و يعيشه التلميذ المتعلم بصفة عامة ، فيمكن القول ان تلك العناصر غير مجدية اذا ما قارناها مع ما هو اصلي راسخ في الوسط المحلي من لغة و قيم ومعارف وغيرها ، هذا مع العلم ان تلك العناصر الدخيلة غالبا ما يتم تغليفها بخلفيات إيديولوجية تحتقر و تسيء بخصوصيتنا الثقافية و اللغوية الاصلية و التي من المفروض ان يكون لها دور اساسي في بناء المجتمع المغربي.
وهو ما اكدته علوم التربية و تبنته منظمة اليونسكو (1) فالمنظومة التربوية في المغرب ما دامت خاضعة لخلفياتها التقليدية فانما ستظل تجعل الانسان المغربي في وضع غير طبيعي يقوده في غالب الأحيان نحو الإحساس بالاغتراب و لو في عقر داره حيث لا يجد ما له صلة و لو من بعيد بواقعه و محيطه داخل ثنايا هذه المدرسة المسماة مغربية و هو الامر الذي قد ينتج عنه تدريجيا حسب احد المختصين في سيكولوجية التربية نظرة احتقارية لخصوصياته و لوطنه ، بحيث سيتنكر لاصله و هويته و ثقافته و في النهاية لا يفكر سوى في السعي الى الهجرة التي بالفعل قد اصبحت خلفية اكتسحت عقول المغاربة لا لشيء سوى لان الانسان يشعر بعنف الوضعية السالفة بالإضافة الى الاوضاع المادية ، و من الذين اكدوا هذا الأمر الأستاذ جغايمي جامع في تعليق له على الميثاق حيث اشار الى ان اعضاء اللجنة لا زالوا يحتفظون بحنين الى الخلفيات التي حكمت المغرب منذ " الاستقلال " و التي كانت السبب الرئيسي في هذا المسلسل من الإخفاقات و لذلك فلا ننتظر من هذا الاصلاح سوى الفشل اذ ان الميثاق نجده يرسخ مبدأي التعريب و التغريب بالرغم من ثبوت سلبياتهما و في المقابل يقللون من شان مبدا المغربة الذي من شانه ان يربط قطاع التربية و التعليم بوسطه السوسيو ثقافي و الاقتصادي و باعتبار ان هذا المبدا عامل اساسي لترسيخ تيمتي الوطنية و المواطنة ، و بالتالي فاللجنة لم تخرج عن السياق التقليدي الذي أحدثته " الحركة الوطنية " و هو السياق الذي همش و اقصى كل ما هو مغربي مثل الغاء تدرس الامازيغية الذي كان واردا في الفترة الاستعمارية الفرنسية و هو سلوك مبني على ايديولوجية تشرئب من الفكر القومي الاصولي ، فابعاد اللغة و الثقافة الامازيغيتين في المنظومة التعليمية و تناسيهما في الاصلاحات انما يعد استهتارا واضحا و قمعا لحق عادل و مشروع ، و هو يعد إجحاف في حق الانسان المغربي الامازيغي الذي لا تمنح له أي إمكانية للانخراط السوي و الطبيعي في قطاع التربية و التعليم ، لكن العكس هو الحاصل والا فبماذا نفسر مظاهر الفشل و الطرد و الانقطاع المبكر عن الدراسة و هي ظواهر تسود بدرجة اكبر في أوساط المغاربة الناطقين بالامازيغية £ فهل الإصلاح الجديد عمل على تجاوز هذه النواقص £ هل حاول ايقاف مسلسل تخريب الذاكرة الحضارية الوطنية و تشويهها ، وبالتالي تحقيق المصالحة مع الذات (ام ان الاصلاح سيبقى وفيا لنفس التوجهات التي انتجت الازمات )
التوقيع