خلال أيام يلتقي ممثلون لما لا يقل عن أربع وعشرين دولة في أنابولس، ليشاركوا في حفلة كان قد دعا إليها الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش للبحث في حل للصراع “الإسرائيلي”- الفلسطيني. ومع أن هذه “الحفلة” تقام في موسم الخريف حيث تسقط الأوراق عن الأشجار فتظهر عارية من غطائها الأخضر الجميل ولكن حقيقية، إلا أن كل الدلائل والمؤشرات المنطقية المقبولة تقول إنها ستكون “حفلة تنكرية”! والحقيقة أنه، استنادا إلى المعطيات المتوفرة، يمكن القول إنها ستكون “تنكرية” بمعنيين وليس بمعنى واحد: المعنى الأول هو المعنى المتعارف عليه في الحفلات التنكرية، حيث يتم إخفاء وجه الشخص وهيئته وهو ما يتحقق من خلال “اللباس” و”القناع”، فيترك لكل مشترك أن يختار لباسه الذي يريد وكذلك قناعه. وقد يختار جبان لباس فارس، وتختار “حيزبون” قبيحة قناع “فينوس”، بينما تجد متسولة نفسها في ثياب “سندريلا”! أما المعنى الثاني فيأتي من “النكران”، حيث تجد معظم المشاركين في حقيقتهم ناكرين متنكرين ومستنكرين لما يزعمون أنهم ينادون به ويجاهدون في سبيله، وكل ما جاءوا من أجله.
وحتى لا يقول قائل إنني متشائم أو متحامل سيئ الظن، لا بد من وقفة سريعة وقصيرة جدا أمام الموقف “الإسرائيلي” وما سيكون عليه في هذه الحفلة، إذ أنه لا شيء يمكن أن يطرح أو يبحث من دون موافقة الوفد “الإسرائيلي” الذي تحميه الدولة الأقوى المضيفة. وبالمناسبة، فالقضية المطروحة للبحث والحل مطروحة منذ ستين عاما فقط، وحلها وضعته (قرارات الشرعية الدولية) ومنصوص عليه - كما يعلم الجميع - في قرارات الأمم المتحدة: (قرار تقسيم فلسطين لعام 1947 والقرارين 181و194 لعام 1949 والقرار 242 لعام 1967).
لقد دأب “الإسرائيليون” على الزعم بأنهم يريدون ويسعون إلى (السلام) مع (جيرانهم) الفلسطينيين والعرب الذين يرفضون السلام ويصرون على القضاء على (دولة “إسرائيل”). مع ذلك، فهم الذين اغتصبوا الأرض من أصحابها وطردوهم من بيوتهم ثم عادوا فاحتلوا ما بقي من وطنهم، يصادرون الأرض ويقيمون عليها المستوطنات، وهم الذين شنوا خمس حروب على (جيرانهم) حتى الآن، وظلوا طيلة العقود الماضية يرفضون الاحتكام إلى (القانون الدولي) و(قرارات الشرعية الدولية)، وكل ذلك باسم (حق اليهود في أرض “إسرائيل”) ثم باسم (أمن “إسرائيل”). ولم تتغير مواقفهم المعلنة والمضمرة وكل السياسات التي يمارسون، وبعضهم يعترف بذلك. ولضيق المجال سأكتفي بأن أستعير كلمات أحدهم قال فيها إن المواقف “الإسرائيلية” لم تتغير منذ كان إسحق شامير في رئاسة الوزراء (منذ عقدين تقريباً)، وكان يجب أن يقول لم تتغير منذ قامت دولتهم... يقول الكاتب “الإسرائيلي” عوزي بنزيمان في صحيفة (هآرتس- 11/11/2007): “شركاء أولمرت فرضوا عليه عدم أي ذكر للمسائل الجوهرية في جدول الأعمال أو في البيان الختامي الذي يصدر عن آنابولس. هناك خلاف شديد ودموي بين “إسرائيل” والفلسطينيين، وهو يدور حول تحديد الحدود ومستقبل القدس وحق العودة، لكنه محظور على الوفد “الإسرائيلي” أن يتطرق لهذه المسائل الجوهرية أو ذكرها، وكأنما المعارضة تقول لأولمرت توجه إلى أنابولس للتحدث عن الطقس... وليس هناك دليل أكثر من ذلك على أن المواقف “الإسرائيلية” لم تتغير منذ أيام إسحق شامير”!
وفي الشهرين الماضيين ومنذ اليوم الأول لدعوة الرئيس الأمريكي، يتحدث “الإسرائيليون” ويؤكدون أنه لن يكون حديث أو مفاوضات حول (المسائل الجوهرية) في أنابولس... إذن لماذا يذهبون ويجرون معهم ثلاثة وعشرين دولة؟ صحيفة (معاريف) قدمت الجواب فقالت: إن وزيرة الخارجية تسيبي ليفني استطاعت، بعد سبع زيارات قامت بها نظيرتها الأمريكية إلى فلسطين المحتلة، “أن تجند الأمريكيين لجهة تحويل أنابولس إلى “لقاء تأسيسي” لإطلاق مسيرة تفاوضية وليس لبيانات جوهرية”! كم مرة عقدت “لقاءات تأسيسية”، بل كم “اتفاقية” تم توقيعها منذ توقيع “اتفاق أوسلو”، وها نحن ننتظر أن يخرج لقاء أنابولس ب “لقاء تأسيسي”! والحقيقة أن هذا “اللقاء التأسيسي” ليس مضمونا أو مفروغا منه، ومطلوب من الفلسطينيين أن يقدموا قبله بعض “المحفزات” البسيطة مثل: “الاعتراف بأن “إسرائيل” هي الوطن القومي للشعب اليهودي” وأن ينسوا موضوع حق عودة اللاجئين، وأن “يبدأوا بمحاربة الإرهاب” وأن “لا يطرحوا مسألة تفكيك المستوطنات أو مسألة تقسيم القدس”... فهذه كلها مسائل شملتها (الضمانات الأمريكية) التي قدمها الرئيس جورج بوش لرئيس الوزراء السابق أرييل شارون في (مذكرة تفاهم) منذ إبريل/نيسان 2004.
فماذا بقي أمام الوفد الفلسطيني المفاوض، ولماذا يذهب إلى أنابولس؟ وماذا أمام الوفود العربية المشاركة، وهل نسأل عما ستفعله الوفود غير العربية المشاركة في هذا “اللقاء التأسيسي”؟ حكومة سلام فياض قررت، وكما يقول وزير داخليته عبدالرزاق اليحي، لجريدة “الرأي العام” الكويتية، إنها “أعطت تعهدا ل “إسرائيل” بحل كل الأجنحة المسلحة الفلسطينية” وأن “التنسيق الأمني” مع أجهزة الأمن “الإسرائيلية” قائم. وكانت الصحف “الإسرائيلية” قد ذكرت أن وثيقة توصل إليها ياسر عبد ربه مع يوسي بيلين قضت بإسقاط موضوع حق العودة سلمت لوزيرة الخارجية الأمريكية... فماذا بقي من “المسائل الجوهرية” و”قضايا الحل النهائي” لم يجد حلاً له؟!
يبدو أن القضية لمن يحتفلون في أنابولس أصبحت محلولة، ولا عقبات في الطريق. ربما، ولكن أين الشعب صاحب القضية؟ هل تراه ذاب قبل أن يدخل فصل الشتاء وتسقط أمطاره؟ هذا هو الوهم بعينه... ألا يحق لي بعد هذا كله أن أسميها “حفلة تنكرية”؟