الساحة الصغيرة تذكر الزائر بالطابع الأندلسي-المغربي. بناية المطعم المختص في طبخ السمك معلم تاريخي. احتضن المكان فيدريكو غارسيا لوركا. هذا ما يقرأه الزائر على اللوحة التذكارية التي نصبتها قصر بلدية مالاغا فوق البناية تكريما لشاعر الحرية. بعد تناول وجبة السمك، وقضاء ليلة في فندق "الجنوب"، انطلقت الباخرة "آيت سيدل" التابعة لشركة "رضوان فيري" التي تربط مالاغا بالحسيمة نحو جنوب الجنوب.
ينحدر عدد كبير من سكان مدينة مالاغا الأسبانية من مدينة الحسيمة، قلب الريف النابض على الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط. من بين هؤلاء مانويل بالومو روميرو الذي وشحه الملك المغربي محمد السادس بوسام علوي بدرجة ضابط أثناء زيارته الرسمية لمدينة الحسيمة هذا الصيف، اعترافا له بمجهوداته من أجل ربط جسور التواصل الحضاري بين الشمال والجنوب. هندسة مالاغا والحسيمة، وتقاليد وعادات السكان تتشابه إلى حد كبير. تأسست مدينة الحسيمة عام 1926 من طرف الجنرال الاسباني سان خورخو الذي أعطى اسمه للمدينة "بييا سان خورخو"، بعد دخوله المدينة من شاطئ "صاباديا" أثناء الحرب الريفية الاسبانية التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي. الجيل القديم يسمي المدينة لحد الآن بهذا الاسم "بييا". الجيل الجديد يستعمل اسم "الحسيمة" مع استثناءات قليلة. هذا هو الاسم الذي عرفت به المدينة بعد الاستقلال عام 1956.
نوارس الميناء
يحكي النادل عن متاعب صاحب الشركة مع السلطات المغربية من أجل الحصول على رخصة الإبحار من جديد للربط بين الشمال والجنوب. توقفت رخصة الإبحار نحو الشمال انطلاقا من الحسيمة بعد حصول المغرب على استقلاله. رفع صاحب الشركة دعوة قضائية ضد وزير النقل والدولة المغربية في شخص وزيرها الأول ادريس جطو للفوز برخصة الإبحار. رواد المقهى من الجيل الثاني للمهاجرين يستمعون لأغنية "يوشيشم بابام شام عاذ د تامزيانت / أعطاك أبوك وأنت صغيرة" لفرقة اثران. الفضاء يتسع لكل اللغات: الهولندية، الفرنسية، الألمانية، الاسبانية، الأمازيغية.
البحر الأبيض المتوسط الغارق في زرقته، هادئ. جبال الريف الشامخة تبدو في الأفق. النوارس تحلق في السماء الزرقاء. الباخرة تقترب من ميناء الحسيمة. حمرة الغروب رائعة. تنبعث الروائح الكريهة من مزبلة سيدي عابد، لتعكر روعة المناظر الطبيعية الخلابة لخليج الحسيمة الذي تتوسطه صخرة النكور التي لا تزال تابعة لاسبانيا. يبدو "المحل" عند قدم الجبل في الأفق حيث اصطدنا السمك ومارسنا شغبنا الطفولي الجميل. المكان ممنوع على الجيل الجديد، احتلته البحرية الملكية. ترسو الباخرة في ميناء الحسيمة، بالضبط في المكان الذي تعلمت فيه فن السباحة مع أصدقاء الطفولة: "أزرو". تحول أزرو الذي احتلته النوارس إلى رصيف.
ساحة وسط المدينة
كانت المفاجأة كبيرة حين دخلت بيتنا. لم يكن أحد من أفراد العائلة على علم بزيارتي. خرجت لأستنشق الهواء المتوسطي الجميل. الحركة غير عادية بالمدينة. تبدو المدينة وكأنها محاصرة. الملعب البلدي مكتظ بالقوات المسلحة. رجال الشرطة موزعون على كل نقطة من المدينة. قررت الذهاب إلى مقهى فندق "محمد الخامس" المطل على شاطئ "كيمادو" بحثا عن الراحة. تحولت الحديقة الاسبانية الرائعة المقابلة للمعلمة التاريخية مقر المعهد الاسباني، والتي تفصل بين الشارعين الرئيسيين للمدينة شارع محمد الخامس وشارع عبد الكريم الخطابي، إلى ساحة "محمد السادس". اختار أبناء المدينة اسما آخر للساحة: باركي ن لوصا / ساحة الاسمنت. لم يعد أثر للأشجار أو للمساحات الخضراء أو لمنتزهات الأطفال بالمدينة. أتت المجالس البلدية بعد الاستقلال على الأخضر واليابس. أصبحت المدينة قلعة إسمنتية. لم يعد هناك متنفس للمدينة. شوارع المدينة شديدة الازدحام. سيارات الجالية المغربية المقيمة بالخارج تسيطر على فضاء المدينة.
أدغال شقران
السبت، الساعة تشير إلى السادسة صباحا. المكان "فلوريدو" التي أصبحت ساحة الريف. لدينا موعد مع رئيس بلدية المدينة أحد المرشحين في الانتخابات لمتابعة حملته في هذا اليوم من شهر غشت. يتحدث المرشح عن أهمية المشاركة السياسية للنخبة المثقفة من أجل تغيير الأوضاع المزرية في المنطقة وتحقيق الإقلاع الاقتصادي. تغيرت المعالم الهندسية للمدينة بشكل كبير، لكن ساحة فلوريدو، قلب المدينة القديمة التي أصبحت محطة للحافلات، لا تزال تحافظ ولو بالكاد على بعض الملامح الاسبانية. انطلقنا وراء موكب المرشح نحو "شقران" في قلب الريف على بعد ساعة ونصف من مدينة الحسيمة. المنطقة جبلية وعرة والطريق حلزونية. نسيم بارد يدخل من نوافذ السيارة. نتنفس. غابات شقران تنسينا ازدحام المدينة وتلوثها. بدأ المرشح يوزع الملصقات الانتخابية. يتساءل الفلاحون البسطاء عن جدوى الزيارة تتردد هذه العبارة على كل الألسن. يشرح الأطفال للمسننين كيفية التصويت. ضع علامة على هذا الكتاب الأزرق المفتوح. لكل حزب رمزه الانتخابي. كل الرموز التي تخطر على البال موجودة: الحمام، الفرس، السيارة ومفتاحها، الميزان... بعد ساعة اتجهنا نحو "امزورن" حيث التقينا بالمرشح الهولندي من أصل مغربي الذي فاز بمقعد برلماني في هذه الانتخابات. جلسنا في أحد المقاهي بامزورن. هذه المدينة الفتية تضمد جراحها بعد زلزال 2004.
ينحدر عدد كبير من سكان مدينة مالاغا الأسبانية من مدينة الحسيمة، قلب الريف النابض على الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط. من بين هؤلاء مانويل بالومو روميرو الذي وشحه الملك المغربي محمد السادس بوسام علوي بدرجة ضابط أثناء زيارته الرسمية لمدينة الحسيمة هذا الصيف، اعترافا له بمجهوداته من أجل ربط جسور التواصل الحضاري بين الشمال والجنوب. هندسة مالاغا والحسيمة، وتقاليد وعادات السكان تتشابه إلى حد كبير. تأسست مدينة الحسيمة عام 1926 من طرف الجنرال الاسباني سان خورخو الذي أعطى اسمه للمدينة "بييا سان خورخو"، بعد دخوله المدينة من شاطئ "صاباديا" أثناء الحرب الريفية الاسبانية التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي. الجيل القديم يسمي المدينة لحد الآن بهذا الاسم "بييا". الجيل الجديد يستعمل اسم "الحسيمة" مع استثناءات قليلة. هذا هو الاسم الذي عرفت به المدينة بعد الاستقلال عام 1956.
نوارس الميناء
يحكي النادل عن متاعب صاحب الشركة مع السلطات المغربية من أجل الحصول على رخصة الإبحار من جديد للربط بين الشمال والجنوب. توقفت رخصة الإبحار نحو الشمال انطلاقا من الحسيمة بعد حصول المغرب على استقلاله. رفع صاحب الشركة دعوة قضائية ضد وزير النقل والدولة المغربية في شخص وزيرها الأول ادريس جطو للفوز برخصة الإبحار. رواد المقهى من الجيل الثاني للمهاجرين يستمعون لأغنية "يوشيشم بابام شام عاذ د تامزيانت / أعطاك أبوك وأنت صغيرة" لفرقة اثران. الفضاء يتسع لكل اللغات: الهولندية، الفرنسية، الألمانية، الاسبانية، الأمازيغية.
البحر الأبيض المتوسط الغارق في زرقته، هادئ. جبال الريف الشامخة تبدو في الأفق. النوارس تحلق في السماء الزرقاء. الباخرة تقترب من ميناء الحسيمة. حمرة الغروب رائعة. تنبعث الروائح الكريهة من مزبلة سيدي عابد، لتعكر روعة المناظر الطبيعية الخلابة لخليج الحسيمة الذي تتوسطه صخرة النكور التي لا تزال تابعة لاسبانيا. يبدو "المحل" عند قدم الجبل في الأفق حيث اصطدنا السمك ومارسنا شغبنا الطفولي الجميل. المكان ممنوع على الجيل الجديد، احتلته البحرية الملكية. ترسو الباخرة في ميناء الحسيمة، بالضبط في المكان الذي تعلمت فيه فن السباحة مع أصدقاء الطفولة: "أزرو". تحول أزرو الذي احتلته النوارس إلى رصيف.
ساحة وسط المدينة
كانت المفاجأة كبيرة حين دخلت بيتنا. لم يكن أحد من أفراد العائلة على علم بزيارتي. خرجت لأستنشق الهواء المتوسطي الجميل. الحركة غير عادية بالمدينة. تبدو المدينة وكأنها محاصرة. الملعب البلدي مكتظ بالقوات المسلحة. رجال الشرطة موزعون على كل نقطة من المدينة. قررت الذهاب إلى مقهى فندق "محمد الخامس" المطل على شاطئ "كيمادو" بحثا عن الراحة. تحولت الحديقة الاسبانية الرائعة المقابلة للمعلمة التاريخية مقر المعهد الاسباني، والتي تفصل بين الشارعين الرئيسيين للمدينة شارع محمد الخامس وشارع عبد الكريم الخطابي، إلى ساحة "محمد السادس". اختار أبناء المدينة اسما آخر للساحة: باركي ن لوصا / ساحة الاسمنت. لم يعد أثر للأشجار أو للمساحات الخضراء أو لمنتزهات الأطفال بالمدينة. أتت المجالس البلدية بعد الاستقلال على الأخضر واليابس. أصبحت المدينة قلعة إسمنتية. لم يعد هناك متنفس للمدينة. شوارع المدينة شديدة الازدحام. سيارات الجالية المغربية المقيمة بالخارج تسيطر على فضاء المدينة.
أدغال شقران
السبت، الساعة تشير إلى السادسة صباحا. المكان "فلوريدو" التي أصبحت ساحة الريف. لدينا موعد مع رئيس بلدية المدينة أحد المرشحين في الانتخابات لمتابعة حملته في هذا اليوم من شهر غشت. يتحدث المرشح عن أهمية المشاركة السياسية للنخبة المثقفة من أجل تغيير الأوضاع المزرية في المنطقة وتحقيق الإقلاع الاقتصادي. تغيرت المعالم الهندسية للمدينة بشكل كبير، لكن ساحة فلوريدو، قلب المدينة القديمة التي أصبحت محطة للحافلات، لا تزال تحافظ ولو بالكاد على بعض الملامح الاسبانية. انطلقنا وراء موكب المرشح نحو "شقران" في قلب الريف على بعد ساعة ونصف من مدينة الحسيمة. المنطقة جبلية وعرة والطريق حلزونية. نسيم بارد يدخل من نوافذ السيارة. نتنفس. غابات شقران تنسينا ازدحام المدينة وتلوثها. بدأ المرشح يوزع الملصقات الانتخابية. يتساءل الفلاحون البسطاء عن جدوى الزيارة تتردد هذه العبارة على كل الألسن. يشرح الأطفال للمسننين كيفية التصويت. ضع علامة على هذا الكتاب الأزرق المفتوح. لكل حزب رمزه الانتخابي. كل الرموز التي تخطر على البال موجودة: الحمام، الفرس، السيارة ومفتاحها، الميزان... بعد ساعة اتجهنا نحو "امزورن" حيث التقينا بالمرشح الهولندي من أصل مغربي الذي فاز بمقعد برلماني في هذه الانتخابات. جلسنا في أحد المقاهي بامزورن. هذه المدينة الفتية تضمد جراحها بعد زلزال 2004.
سحر الشواطئ
رجعنا إلى الميناء لتناول وجبة من السمك. توقفنا ب"بوكيدارن" التي أصبحت "سيدي بوعفيف". أجلنا زيارة الميناء لهذا المساء. تناولنا وجبة الغذاء ببوكيدارن. عائلة بجانبنا من الجالية المقيمة بهولندا تتحدث باللغة الهولندية. يتضاعف عدد سكان إقليم الحسيمة في فصل الصيف. يقضي عدد كبير من أفراد الجالية المغربية بهولندا عطلتهم بهذه المدينة الساحرة بسواحلها وجبالها ومناظرها الطبيعية الخلابة وزرقة بحرها المتوسطي. واصلنا الطريق. قررنا الذهاب إلى أحد الشواطئ للاستجمام. اخترنا شاطئ "أزضي" قرب شاطئ "رمود." البحر غاضب. الأمواج عاتية. الشاطئ والبحر مليء بالأكياس البلاستيكية السوداء التي يجرها التيار من مزبلة سيدي عابد. شواطئ جوهرة البحر الأبيض المتوسط ملوث باستثناء شاطئ بوسكور الذي تحميه الجبال المجاورة. تركنا شاطئ أزضي الملوث. اخترنا السباحة في "ثارا يوسف" الملوث، لكن بدرجة أقل. اقترب الليل، ذهبنا لتناول العشاء في ميناء الحسيمة. الميناء هو القلب الاقتصادي النابض للمدينة. الصيد البحري هو المورد الأساسي للعائلات إضافة إلى عائدات أفراد الجالية المغربية. الجو ساحر.
تتوفر المدينة على شواطئ رائعة تستقطب آلاف الزوار سنويا من الداخل والخارج من بينها كيمادو، وكالابونيطا، تمشضين، أزضي، رمود، ثارا يوسف، أغيور، كالايريس، سواني، صفيحة، اسري... اللائحة طويلة. من بين أروع شواطئ إقليم الحسيمة، شاطئ "بوسكور" الساحر الذي يقع في منطقة ايبوقين الساحلية قرب أنقاض مدينة بادس التي ذكرها ليون الإفريقي في وصفه لإفريقيا الشمالية، وجزيرة بادس المحتلة لحد الآن. يعيش أغلب سكان ايبقوين بالصيد البحري. كان السكان قبل ذلك يعيشون بالقرصنة البحرية، قبل أن يضع السلطان حدا لهذا النشاط تحت ضغط الدول الأوربية. لا زالت الحملة المخزنية بقيادة بوشتى البغدادي عام 1889 ضد ابقوين تتداول على كل الألسن. من بين الأماكن التي تستحق الزيارة كذلك المنتزه المتوسطي الذي يحمي عددا من الحيوانات والطيور والنباتات الفريدة من نوعها في العالم.
بيت عبد الكريم
لن أغادر المنطقة دون زيارة معلم تاريخي لمدينة الحسيمة. انطلقت السيارة مرورا بأجدير عاصمة جمهورية عبد الكريم الخطابي التي أعلنها في بداية العشرينات من القرن الماضي. التاريخ حاضر بقوة في هذه المدينة التي بنيت على أنقاض مدينتي النكور والمزمة التي كانت تربط جسور التواصل بين شمال إفريقيا والأندلس. توقفنا عند مقبرة المجاهدين للترحم على العائلة والأصدقاء وباني سور المقبرة الدكتور عمر الخطابي، الذي ولد في الباخرة التي نقلت محمد بن عبد الكريم إلى منفاه بجزيرة لارايونيون. هنا يبدأ الطريق الساحلي الذي يربط مدينة الحسيمة بمدينة الناظور الذي موله الاتحاد الأوربي لفك العزلة على منطقة الريف شمال المغرب. بدا لنا في الأفق منزل مهجور. توقفت السيارة. بيت عبد الكريم الخطابي في حالة يرثى لها. تنبعث الروائح الكريهة من كل الغرف. حالة المعلم التاريخي يندى لها الجبين. تذكرت بناية شاعر الحرية فيدريكو غارسيا لوركا بمدينة مالاغا بالضفة الأخرى والعناية التي تحظى بها من طرف قصر البلدية.
شارع عبد الكريم الخطابي مزدحم بالمعدات الحربية التي تغادر المدينة. يبدو أن الملك محمد السادس قد غادر جوهرة المتوسط بعد أن قضى إجازة فيها أغلقت خلالها عدد من الشواطئ الجميلة على المصطافين واكتظت المدينة وطرقاتها بأجهزة الأمن ومركباتهم وإجراءاتهم التي تسبب الضيق.
اتصالات المغرب رجعت من حيث أتت. أغادر أنا أيضا. ساعة الإبحار نحو الشمال بالتوقيت المغربي منتصف الليل. شرطي الحدود يسألني من جديد: "آش كا دير؟ / ماذا تفعل؟ " أجيب: "اقرأ. المهنة مكتوبة على ورقة الدخول." يضيف بنبرة مستفزة: "ادخل هنا. نحن الشرطة نحب الصحافيين." تشير الساعة إلى الثانية صباحا. لا تزال الباخرة على الرصيف بالجهة المقابلة لرصيف أزرو الزاهي بالنوارس.
هل سيعود الهدوء إلى المدينة؟ يبدو أن الزلزال، والمصالحة، وإعادة الإعمار، والطريق الساحلي المتوسطي والمشاريع السياحية سيغيرون معالم المدينة والمنطقة للأبد.
محمد الأيوبي/صحفي بهولندا