انتفاضة الشعر الأمازيغي المعاصر
الشاعر واجد كركار نموذجا
كلمة في حق الشعر الأمازيغي:
يعتبر الشعر مكونا هاما من مكونات الثقافة الامازيغية، وواحدا من أساساتها الصلبة، باعتباره ـ الشعر ـ أرقى وأسمى شكل للتعبير، ف "إزران" أو " أسفرو" ليسا وليدي اللحظة عند الأمازيغ، بل تأصلا في الذاكرة وفي أعماق أعماق الإنسان الأمازيغي منذ القدم، وتبعا للحتميات التاريخية والتطورات التي عرفتها كل مناحي الحياة، فقد تطور الشعر الأمازيغي بفعل كثير من العوامل، منها ما هو موضوعي يتعلق بالبيئة والتطورات العامة التي تحيط بالشعراء و الحيثيات التي تكتب فيها ثقسيسين ( القصائد) اليوم، ومنها ما هو ذاتي يتعلق بالرغبة الأكيدة لدى ثلة من الشعراء الأمازيغ في تجديد النسق الشعري و مواكبة الأدب العالمي الذي يشهد بدوره منعرجات مهمة، ووقفات تأني تتمرد على كل ما هو كلاسيكي قديم، حيث انتقل الشعر الأمازيغي من إزران غنائية رددتها النساء و الرجال على حد سواء في الأعراس و الاحتفالات الجماعية كتعبير عن حالة الفرحة و السرور الجماعيين، إلى إزران جديدة لا تمتُّ إلى سابقتها بصلة إلا حينما يتعلق الأمر باللغة الشعرية الجميلة فهما سيان في ذلك، فظهرت ما اصطلح عليها قصيدة النثر، أو شعر النثر كنوع جديد من الشعر لم يتأقلم مع المعايير المتعارف عليها قديما في الشعر من بنية أو موسيقى بل تمرد عليهما تمام التمرد، فشعر النثر يتحف القارئ بموسيقى جميلة تتجدد في كل لحظة ولا تسترسل على ذات نسق، أما بنيته فلا تتعلق إلا بالشاعر نفسه حيث يبتكر لكل قصيدة بناء جديدا تلازمه موسيقى يتعلقان بالموضوع و الغرض الشعريين اللذين تكتب من أجلهما القصيدة. لقد كتب في هذا النوع الأدبي كثير من الشعراء الأمازيغيين، ونقف في هذا العدد مع شاعر أمازيغي شاب توهج بلظى الكتابة الشعرية، واكتوى بنار الإبداع على حداثة سنه، فصار واحدا من شعراء الأمازيغية الجميلين الرائعين الذين يتفاعلون مع النضال من أجل الأمازيغية، ويكتبون من أجلها صباح مساء، إنه الشاعر واجد كركار، فمن هو شاعرنا الشاب؟ وإلى أي مستوى استطاع واجد كركار أن يتوغل في دروب الشعر المعاصر؟ وما هي سمات القصيدة عند هذا الشاعر الشاب والمبدع الواعد؟
وقفة مع بيئة الشاعر و محيطه العام:
من أقصى الريف حيث الجبال شاهدة على تاريخ طويل، امتزجت فيه الهوية الأمازيغية بالصمود، وتناغمت فيه ذكريات الشهامة والبسالة، وعراقة الدم الأمازيغي المسفوك، والمتجذر في كل ربوع الأرض الأمازيغية، تاريخ ظل لقرون و لا يزال منبعا ثراًّ للكتابة الإبداعية بكل ما فيه من صفحات أرخت لعالم الشعر، وزينت الساحة الثقافية بكلماتها النبيلة العذبة والمطلة علينا من عالم الإحساس الجميل والواسع في آن. من أقصى الريف حيث الطبيعة الخضراء و اليانعة، طبيعة تسامر الروح في أعمق حالاتها، فمن بعيد تتراءَ لك هضاب وأودية وغابات، الكل في تجانس مستمر يرسم فولكلوره من خلال نبل وروعة شعريين غير منتهيين. من وهنا كان ميلاد الذات الشاعرة لواجد كركار، زادها صقلا التعرف المبكر للشاعر على أدوات النضال في صفوف الحركة الأمازيغية، وانخراطه في العديد من الجمعيات التي تنشط في الحقل الأمازيغي وتسعى إلى استرداد الحق التاريخي والإرث الحضاري لأمة تامزغا، كما أن تعرّف الشاعر واحتكاكه بالعديد من الشعراء البارزين سواء عن طريق القراءة لهم، أو عن طريق الأمسيات الفنية والشعرية التي يحضرها إلى جانبهم، فكانت بذلك إذن ولادة الشاعر واجد كركار من رحم المعاناة والمسؤولية الجادة في كسب الرهان، والاشتغال على الشعر من أجل تنوير الساحة الثقافية بالمنطقة، وكسر حاجز الروتين، والرتابة القاتلة التي غطت المشهد الثقافي بالريف لسنوات طوال.
رحلة متأنية وقراءة فاحصة في أهداب النمط الشعري و جمالية القصيدة:
وأنت تقرأ قصيدة ما لواجد كركار ينتابك شغف وعشق لا نظير لهما، فكأنما تقرأ شعرا للوركا الإسباني أو ليوبوند سنغور السنغالي، غير أن لوركا كتب بالإسبانية دفاعا على الحرية وحوزة الإنسان المظطهد، وليوبوند سنغور كتب بالفرنسية دفاعا على قضية الزنوج، وواجد كركار يكتب باللغة الأمازيغية أيضا دفاعا على القضية والحق المسلوب.
كثيرة هي الكلمات التي يستعملها الشاعر للدلالة على المعاناة والألم الداخليين والقابرين في ذاته العطشانة إلى الحرية وشروق شمس الحقيقة المنصفة، فلفظة الحقيقة (تيذت) تجتاح جل قصائده، كما نجده يعنون بها قصائد أخرى فمثلا له قصيدة كتبها تحت عنوان " حقيقتها"( تيذت إينس)، قصيدة جميلة بل من أروع ما قرأت على الإطلاق حيث المعاناة و المكابدة حاضرتين بثقليهما في قالب شعري لا نظير له، فكأنما قدر الشعراء أن ينزفوا دما كي يكتبوا شعرا، وهي الحقيقة التي أقبلتُ عليها وأنا أقرأ لشاعرنا قصائده حيث يقول:
Izerfan i zi nnuffaregh
War yadji zi tnamit
I yadjan deg iman negh
Maca, min ssnegh ?
Tiwacca igha yirin
S idannatt nnegh
A tiri d radas,
Waxxa yessig*j-it wadvo
X izeryawen nnegh
……..
a tiri d taseklut
i-gha-yewten izuran di radjagh n tisi
di radjagh n yixf
di radjagh n tittawin
ttisaqqar x timura n inigi
إن إيمان الشاعر الراسخ ووثوقه اللامحدود بأن الغد ( ثيوشا) لا محالة سيخرج من أنقاض الماضي، غدٌ ظلّ يراود الشاعر و يطارده في كل أحلامه وأمانيه حتى بات واحدا من قدريات قصيدته بل الحاضر برمزيته المهولة في شعره، غدٌ سينبثق رغم العاصفة و الريح اللتين تحاولان البتة أن تصادما غد الشاعر و تضرباه بجدار اللامبالاة و حميم اللاجدوى. إن غد الشاعر الآتي ليس مجرد زمان يبحث فيه الشاعر عن ليلاه، بل أعمق من ذلك بكثير فهو تلك اليخضورية اليانعة التي ستضرب بيدها في أعماق الجذور، وفي أعماق الوجه والعينين لتنبت حياة الحرية وتطمس ذكريات الألم في ماضيها، إنها محاولة جميلة من الشاعر في الهروب و الخروج من دائرة المألوف وصنع لوحة سوريالية تتجرد فيها الذات من روحها، وتنحني فيها " أنا" الشاعر أمام صدق الكلمة وعذوبة الإحساس، و لعل هذا بازغ و بارز في تلك الدلالات الموحية والعبارات الرامزة إلى أن الغرض الشعري مختفٍ وراء الكلمة، وأن أي محاولة لفك طلاسم القصيدة والتطاول على الكلمة بغرض النيل منها قد يجعلاننا تائهين في زحمة الشعر، و زخم من الأحاسيس.
يحضر التاريخ بثقله في شعر واجد كركار، بل إن التراكمات التاريخية والأحداث والقصص المتعارف عليها، لا يكاد يفَوِّتُ قصيدة إلا أتى لنا بواحدة منها ( القصص) فيها ــ القصيدة ــ فقصة" حمو أونامير" المعروفة في التاريخ الأمازيغي حاضرة بدورها في كتابات شاعرنا
الواعد، حيث إنها تحضر لتأكيد أغراض شعرية معينة يرنوها الشاعر أو للدلالة على الواقع المعاش، فيقول في قصيدة تحت عنوان " أمكسا ن ثقسيسث":
Nec d ameysa n tqessist
i-d-yessijjen zic,
ak usijji,
ak tifawt,
ak ijen tafart tusem!
Jar hammu unamir
Tanirt taddu ghar-waghbar
Ak tanni,
Ak ticri,
Ak mayemmi!
يرحل بنا الشاعر إلى أعالي الجبال، لكن هذه المرة في عمق القصيدة، أين يرعى الشاعر قصيدته باعتبارها روح وكائن من فصيلة لا يعلمها إلا الشاعر نفسه، روح تجددت مع الموسيقى التي وجدنا أنفسنا فيها ونحن نرتل القصيدة. مع ظهور الشاعر في أوغال الكتابة الشعرية المتمرسة لاحت ورقة جريحة مبشرة بصباح آت، لكن سرعان ما يهرب الشاعر بنا أيضا خارج الواقع، لنكون ودون إذن مسبق أمام تجربة "حمو أونامير" الشهيرة. إن هذا المستوى من التمرس ما هو إلا دليل على أن الشعر لا يولد إلا من أفئدة صادقة متطلعة إلى الحياة، ومعبرة عن الواقع تعبيرا يجد فيه القارئ متسعا لهمومه ومكابداته اليومية بعيدا عن المزايدات الشعرية والمناسباتية والانطواء على ذات واحدة غير عابئة بهموم الآخرين وتطلعاتهم، لكن قصائد واجد كركار حبلى بأوجاع الآخرين و تقطعات أوصالهم ليس لشيء إلا لأن شاعرنا يرفض بالمرة قضاء حاجاته المادية على حساب الأخلاق والمبادئ والقضية الأولى، قضية الأمازيغية.
من الغرابة بمكان أن شاعرنا واجد كركار حتى حينما يكتب في إطار غزل عفيف وجميل يستمد أصالته من عاطفة طاهرة وبريئة كل البراءة من الظواهر الغزلية العمياء التي تطغى على أشعار كثير من الشعراء المراهقين الذين يستغلون كتاباتهم من أجل استتباب أنظار الحسنوات والجميلات غير واضعين للقيم الأخلاقية ميزانا يذكر ففي قصيدة تحت عنوان " وهي نوع من العصافير اقتبسها الشاعر من عنان السماء متجردة من كل tifadjest"
أنواع القبح و الميوعة الذكورية وفي جمال أخّاذ يقول:
Zermegh cem a tanibut
A yedjeiss uyezzim
Zermegh cem idvannatt,
Tifadjest teddu,
Gha raggaj teddu,
Gha waghray teddu,
Jar tixecbin di yaman
Teddu teddu..
لقد عبر الشاعر عن حالة عاطفية جميلة حيث يقف محطَّ العاشق الواصف لحبيبته في ارتجال ينمُّ عن طاقة إبداعية لا تكال بمكيال، حيث " تنيبوت" ( حبيبته) فلذة كبد الجرح
ليست إلا صورة أخرى من صور العصفورة الهاربة إلى البعيد، إلى غروب الشمس، هاربة من قيود وأغلال وسلاسل و أقفاص الناس و..إنها ملحمة رائعة يجعلنا الشاعر فيها أمام ازدواجية الإحساس والطبيعة، أي الحبيبة والعصفورة، وهي عملية لوضع علاقة وطيدة بين العاطفة والطبيعة من جهة، وبين المعاناة والكتابة من جهة أخرى.
يواصل الشعر واجد كركار هذه القصيدة بمقطع ثاني دالٍّ أيما دلالة على الأول حين يقول:
Tehres min xafs itwannan
Tuyar atettu
Tazirt temmexs
Djiret tara tessu,
Dcar yaxra
Gha taqessist tetru.
تصوروا العصفورة تلبس ما قيل عنها من كلام، ثم ترحل كي تنسى كل شيء، وكأنها ( أي العصفورة/ الحبيبة) لم تولد إلا لتكون ألَمًا يخالج على الدوام ذات الشاعر في مفارقة عجيبة طبعها انصراف الشاعر وهروبه من أناه، أي تلاحمه وتضامنه اللامشروط مع حبيبته وهي سمة معروفة عند الأمازيغ، تضامن تفتق من القصيدة و انبعث سجلا حافلا بالنبل والروعة يسجل في ملف الشاعر الإبداعي ويدون بماء من ذهب في صحيفة الثقافة الأمازيغية الجميلة والنيرة.
ربما قد لا نستطيع أن نعطي للشاعر واجد كركار ما يستحق وربما قد تكون هذه القراءة مجرد كلام عابر، ولكن من الرجولة بمكان أن نعترف به شاعرا شابا و مبدعا واعدا، أبان لنا عن شعر وأدب تلاحما مع التراث الأمازيغي، واستمدا جذورهما من واقع القضية والنضال من أجل إقرار حق الطفل والإنسان الأمازيغي في حياة يسودها العدل و الأمن والإنصاف في الحقوق والواجبات.
محصلة الكلام:
ليس من باب الترف أو التملق الأدبي إذا قلنا بأن الشعر الأمازيغي حقق انتفاضة لا يستهان بها، وسجلنا ذلك في تتبعنا للعديد من الكتابات الشبابية فوجدنا فيها متنفسا حقيقيا، والذي نلاحظه أن المادة الشعرية لم تعد حكرا في يد ثلة نخبوية، بل ظهرت تيارات شبابية تدعو إلى ضرورة التحديث في كل صنوف الأدب، فانتفضت بذلك على المتعارف عليه في الشعر الأمازيغي القديم، مما يجعلنا نشهد بأن هذا الشعر قد دخل ركب الأدب العالمي بامتياز، وصار واحدا من مدارسه المرموقة، وجدير بالذكر أن كل هذه المكتسبات التي حققها الشعر الأمازيغي جاءت فيما يُضيق عليه الخناق أولئك العروبيون الذين يدعون إلى تعريب التراث والأدب الأمازيغيين في محاولة منهم للنيل من حضارة تمازيغت العريقة،
وذلك عبر مخططات جد مدروسة تحاول طمس التاريخ الأدبي الأمازيغي، وهي مشاريع لم يكتب لها النجاح في أفضل حالاتها بفضل صلابة وقوامة جسد الشعر الأمازيغي وتعلق الروح الأمازيغية بجذور تاريخها الذي دونته بالدم لا بالمداد.
ختاما مهما يكن فإن التراث الأمازيغي الذي ما يزال يذكر بويا و ديهيا وماسينيسا ومولاي محند و..و.. لن يموت أبدا ولو ضخوا السموم في عروقه ودسوا السكاكين في شرايينه، لأنه بكل بساطة تراث أمة منقول
الشاعر واجد كركار نموذجا
كلمة في حق الشعر الأمازيغي:
يعتبر الشعر مكونا هاما من مكونات الثقافة الامازيغية، وواحدا من أساساتها الصلبة، باعتباره ـ الشعر ـ أرقى وأسمى شكل للتعبير، ف "إزران" أو " أسفرو" ليسا وليدي اللحظة عند الأمازيغ، بل تأصلا في الذاكرة وفي أعماق أعماق الإنسان الأمازيغي منذ القدم، وتبعا للحتميات التاريخية والتطورات التي عرفتها كل مناحي الحياة، فقد تطور الشعر الأمازيغي بفعل كثير من العوامل، منها ما هو موضوعي يتعلق بالبيئة والتطورات العامة التي تحيط بالشعراء و الحيثيات التي تكتب فيها ثقسيسين ( القصائد) اليوم، ومنها ما هو ذاتي يتعلق بالرغبة الأكيدة لدى ثلة من الشعراء الأمازيغ في تجديد النسق الشعري و مواكبة الأدب العالمي الذي يشهد بدوره منعرجات مهمة، ووقفات تأني تتمرد على كل ما هو كلاسيكي قديم، حيث انتقل الشعر الأمازيغي من إزران غنائية رددتها النساء و الرجال على حد سواء في الأعراس و الاحتفالات الجماعية كتعبير عن حالة الفرحة و السرور الجماعيين، إلى إزران جديدة لا تمتُّ إلى سابقتها بصلة إلا حينما يتعلق الأمر باللغة الشعرية الجميلة فهما سيان في ذلك، فظهرت ما اصطلح عليها قصيدة النثر، أو شعر النثر كنوع جديد من الشعر لم يتأقلم مع المعايير المتعارف عليها قديما في الشعر من بنية أو موسيقى بل تمرد عليهما تمام التمرد، فشعر النثر يتحف القارئ بموسيقى جميلة تتجدد في كل لحظة ولا تسترسل على ذات نسق، أما بنيته فلا تتعلق إلا بالشاعر نفسه حيث يبتكر لكل قصيدة بناء جديدا تلازمه موسيقى يتعلقان بالموضوع و الغرض الشعريين اللذين تكتب من أجلهما القصيدة. لقد كتب في هذا النوع الأدبي كثير من الشعراء الأمازيغيين، ونقف في هذا العدد مع شاعر أمازيغي شاب توهج بلظى الكتابة الشعرية، واكتوى بنار الإبداع على حداثة سنه، فصار واحدا من شعراء الأمازيغية الجميلين الرائعين الذين يتفاعلون مع النضال من أجل الأمازيغية، ويكتبون من أجلها صباح مساء، إنه الشاعر واجد كركار، فمن هو شاعرنا الشاب؟ وإلى أي مستوى استطاع واجد كركار أن يتوغل في دروب الشعر المعاصر؟ وما هي سمات القصيدة عند هذا الشاعر الشاب والمبدع الواعد؟
وقفة مع بيئة الشاعر و محيطه العام:
من أقصى الريف حيث الجبال شاهدة على تاريخ طويل، امتزجت فيه الهوية الأمازيغية بالصمود، وتناغمت فيه ذكريات الشهامة والبسالة، وعراقة الدم الأمازيغي المسفوك، والمتجذر في كل ربوع الأرض الأمازيغية، تاريخ ظل لقرون و لا يزال منبعا ثراًّ للكتابة الإبداعية بكل ما فيه من صفحات أرخت لعالم الشعر، وزينت الساحة الثقافية بكلماتها النبيلة العذبة والمطلة علينا من عالم الإحساس الجميل والواسع في آن. من أقصى الريف حيث الطبيعة الخضراء و اليانعة، طبيعة تسامر الروح في أعمق حالاتها، فمن بعيد تتراءَ لك هضاب وأودية وغابات، الكل في تجانس مستمر يرسم فولكلوره من خلال نبل وروعة شعريين غير منتهيين. من وهنا كان ميلاد الذات الشاعرة لواجد كركار، زادها صقلا التعرف المبكر للشاعر على أدوات النضال في صفوف الحركة الأمازيغية، وانخراطه في العديد من الجمعيات التي تنشط في الحقل الأمازيغي وتسعى إلى استرداد الحق التاريخي والإرث الحضاري لأمة تامزغا، كما أن تعرّف الشاعر واحتكاكه بالعديد من الشعراء البارزين سواء عن طريق القراءة لهم، أو عن طريق الأمسيات الفنية والشعرية التي يحضرها إلى جانبهم، فكانت بذلك إذن ولادة الشاعر واجد كركار من رحم المعاناة والمسؤولية الجادة في كسب الرهان، والاشتغال على الشعر من أجل تنوير الساحة الثقافية بالمنطقة، وكسر حاجز الروتين، والرتابة القاتلة التي غطت المشهد الثقافي بالريف لسنوات طوال.
رحلة متأنية وقراءة فاحصة في أهداب النمط الشعري و جمالية القصيدة:
وأنت تقرأ قصيدة ما لواجد كركار ينتابك شغف وعشق لا نظير لهما، فكأنما تقرأ شعرا للوركا الإسباني أو ليوبوند سنغور السنغالي، غير أن لوركا كتب بالإسبانية دفاعا على الحرية وحوزة الإنسان المظطهد، وليوبوند سنغور كتب بالفرنسية دفاعا على قضية الزنوج، وواجد كركار يكتب باللغة الأمازيغية أيضا دفاعا على القضية والحق المسلوب.
كثيرة هي الكلمات التي يستعملها الشاعر للدلالة على المعاناة والألم الداخليين والقابرين في ذاته العطشانة إلى الحرية وشروق شمس الحقيقة المنصفة، فلفظة الحقيقة (تيذت) تجتاح جل قصائده، كما نجده يعنون بها قصائد أخرى فمثلا له قصيدة كتبها تحت عنوان " حقيقتها"( تيذت إينس)، قصيدة جميلة بل من أروع ما قرأت على الإطلاق حيث المعاناة و المكابدة حاضرتين بثقليهما في قالب شعري لا نظير له، فكأنما قدر الشعراء أن ينزفوا دما كي يكتبوا شعرا، وهي الحقيقة التي أقبلتُ عليها وأنا أقرأ لشاعرنا قصائده حيث يقول:
Izerfan i zi nnuffaregh
War yadji zi tnamit
I yadjan deg iman negh
Maca, min ssnegh ?
Tiwacca igha yirin
S idannatt nnegh
A tiri d radas,
Waxxa yessig*j-it wadvo
X izeryawen nnegh
……..
a tiri d taseklut
i-gha-yewten izuran di radjagh n tisi
di radjagh n yixf
di radjagh n tittawin
ttisaqqar x timura n inigi
إن إيمان الشاعر الراسخ ووثوقه اللامحدود بأن الغد ( ثيوشا) لا محالة سيخرج من أنقاض الماضي، غدٌ ظلّ يراود الشاعر و يطارده في كل أحلامه وأمانيه حتى بات واحدا من قدريات قصيدته بل الحاضر برمزيته المهولة في شعره، غدٌ سينبثق رغم العاصفة و الريح اللتين تحاولان البتة أن تصادما غد الشاعر و تضرباه بجدار اللامبالاة و حميم اللاجدوى. إن غد الشاعر الآتي ليس مجرد زمان يبحث فيه الشاعر عن ليلاه، بل أعمق من ذلك بكثير فهو تلك اليخضورية اليانعة التي ستضرب بيدها في أعماق الجذور، وفي أعماق الوجه والعينين لتنبت حياة الحرية وتطمس ذكريات الألم في ماضيها، إنها محاولة جميلة من الشاعر في الهروب و الخروج من دائرة المألوف وصنع لوحة سوريالية تتجرد فيها الذات من روحها، وتنحني فيها " أنا" الشاعر أمام صدق الكلمة وعذوبة الإحساس، و لعل هذا بازغ و بارز في تلك الدلالات الموحية والعبارات الرامزة إلى أن الغرض الشعري مختفٍ وراء الكلمة، وأن أي محاولة لفك طلاسم القصيدة والتطاول على الكلمة بغرض النيل منها قد يجعلاننا تائهين في زحمة الشعر، و زخم من الأحاسيس.
يحضر التاريخ بثقله في شعر واجد كركار، بل إن التراكمات التاريخية والأحداث والقصص المتعارف عليها، لا يكاد يفَوِّتُ قصيدة إلا أتى لنا بواحدة منها ( القصص) فيها ــ القصيدة ــ فقصة" حمو أونامير" المعروفة في التاريخ الأمازيغي حاضرة بدورها في كتابات شاعرنا
الواعد، حيث إنها تحضر لتأكيد أغراض شعرية معينة يرنوها الشاعر أو للدلالة على الواقع المعاش، فيقول في قصيدة تحت عنوان " أمكسا ن ثقسيسث":
Nec d ameysa n tqessist
i-d-yessijjen zic,
ak usijji,
ak tifawt,
ak ijen tafart tusem!
Jar hammu unamir
Tanirt taddu ghar-waghbar
Ak tanni,
Ak ticri,
Ak mayemmi!
يرحل بنا الشاعر إلى أعالي الجبال، لكن هذه المرة في عمق القصيدة، أين يرعى الشاعر قصيدته باعتبارها روح وكائن من فصيلة لا يعلمها إلا الشاعر نفسه، روح تجددت مع الموسيقى التي وجدنا أنفسنا فيها ونحن نرتل القصيدة. مع ظهور الشاعر في أوغال الكتابة الشعرية المتمرسة لاحت ورقة جريحة مبشرة بصباح آت، لكن سرعان ما يهرب الشاعر بنا أيضا خارج الواقع، لنكون ودون إذن مسبق أمام تجربة "حمو أونامير" الشهيرة. إن هذا المستوى من التمرس ما هو إلا دليل على أن الشعر لا يولد إلا من أفئدة صادقة متطلعة إلى الحياة، ومعبرة عن الواقع تعبيرا يجد فيه القارئ متسعا لهمومه ومكابداته اليومية بعيدا عن المزايدات الشعرية والمناسباتية والانطواء على ذات واحدة غير عابئة بهموم الآخرين وتطلعاتهم، لكن قصائد واجد كركار حبلى بأوجاع الآخرين و تقطعات أوصالهم ليس لشيء إلا لأن شاعرنا يرفض بالمرة قضاء حاجاته المادية على حساب الأخلاق والمبادئ والقضية الأولى، قضية الأمازيغية.
من الغرابة بمكان أن شاعرنا واجد كركار حتى حينما يكتب في إطار غزل عفيف وجميل يستمد أصالته من عاطفة طاهرة وبريئة كل البراءة من الظواهر الغزلية العمياء التي تطغى على أشعار كثير من الشعراء المراهقين الذين يستغلون كتاباتهم من أجل استتباب أنظار الحسنوات والجميلات غير واضعين للقيم الأخلاقية ميزانا يذكر ففي قصيدة تحت عنوان " وهي نوع من العصافير اقتبسها الشاعر من عنان السماء متجردة من كل tifadjest"
أنواع القبح و الميوعة الذكورية وفي جمال أخّاذ يقول:
Zermegh cem a tanibut
A yedjeiss uyezzim
Zermegh cem idvannatt,
Tifadjest teddu,
Gha raggaj teddu,
Gha waghray teddu,
Jar tixecbin di yaman
Teddu teddu..
لقد عبر الشاعر عن حالة عاطفية جميلة حيث يقف محطَّ العاشق الواصف لحبيبته في ارتجال ينمُّ عن طاقة إبداعية لا تكال بمكيال، حيث " تنيبوت" ( حبيبته) فلذة كبد الجرح
ليست إلا صورة أخرى من صور العصفورة الهاربة إلى البعيد، إلى غروب الشمس، هاربة من قيود وأغلال وسلاسل و أقفاص الناس و..إنها ملحمة رائعة يجعلنا الشاعر فيها أمام ازدواجية الإحساس والطبيعة، أي الحبيبة والعصفورة، وهي عملية لوضع علاقة وطيدة بين العاطفة والطبيعة من جهة، وبين المعاناة والكتابة من جهة أخرى.
يواصل الشعر واجد كركار هذه القصيدة بمقطع ثاني دالٍّ أيما دلالة على الأول حين يقول:
Tehres min xafs itwannan
Tuyar atettu
Tazirt temmexs
Djiret tara tessu,
Dcar yaxra
Gha taqessist tetru.
تصوروا العصفورة تلبس ما قيل عنها من كلام، ثم ترحل كي تنسى كل شيء، وكأنها ( أي العصفورة/ الحبيبة) لم تولد إلا لتكون ألَمًا يخالج على الدوام ذات الشاعر في مفارقة عجيبة طبعها انصراف الشاعر وهروبه من أناه، أي تلاحمه وتضامنه اللامشروط مع حبيبته وهي سمة معروفة عند الأمازيغ، تضامن تفتق من القصيدة و انبعث سجلا حافلا بالنبل والروعة يسجل في ملف الشاعر الإبداعي ويدون بماء من ذهب في صحيفة الثقافة الأمازيغية الجميلة والنيرة.
ربما قد لا نستطيع أن نعطي للشاعر واجد كركار ما يستحق وربما قد تكون هذه القراءة مجرد كلام عابر، ولكن من الرجولة بمكان أن نعترف به شاعرا شابا و مبدعا واعدا، أبان لنا عن شعر وأدب تلاحما مع التراث الأمازيغي، واستمدا جذورهما من واقع القضية والنضال من أجل إقرار حق الطفل والإنسان الأمازيغي في حياة يسودها العدل و الأمن والإنصاف في الحقوق والواجبات.
محصلة الكلام:
ليس من باب الترف أو التملق الأدبي إذا قلنا بأن الشعر الأمازيغي حقق انتفاضة لا يستهان بها، وسجلنا ذلك في تتبعنا للعديد من الكتابات الشبابية فوجدنا فيها متنفسا حقيقيا، والذي نلاحظه أن المادة الشعرية لم تعد حكرا في يد ثلة نخبوية، بل ظهرت تيارات شبابية تدعو إلى ضرورة التحديث في كل صنوف الأدب، فانتفضت بذلك على المتعارف عليه في الشعر الأمازيغي القديم، مما يجعلنا نشهد بأن هذا الشعر قد دخل ركب الأدب العالمي بامتياز، وصار واحدا من مدارسه المرموقة، وجدير بالذكر أن كل هذه المكتسبات التي حققها الشعر الأمازيغي جاءت فيما يُضيق عليه الخناق أولئك العروبيون الذين يدعون إلى تعريب التراث والأدب الأمازيغيين في محاولة منهم للنيل من حضارة تمازيغت العريقة،
وذلك عبر مخططات جد مدروسة تحاول طمس التاريخ الأدبي الأمازيغي، وهي مشاريع لم يكتب لها النجاح في أفضل حالاتها بفضل صلابة وقوامة جسد الشعر الأمازيغي وتعلق الروح الأمازيغية بجذور تاريخها الذي دونته بالدم لا بالمداد.
ختاما مهما يكن فإن التراث الأمازيغي الذي ما يزال يذكر بويا و ديهيا وماسينيسا ومولاي محند و..و.. لن يموت أبدا ولو ضخوا السموم في عروقه ودسوا السكاكين في شرايينه، لأنه بكل بساطة تراث أمة منقول