يبدو لي بأن الكتابات النظرية حول ظاهرة الهجرة المغربية بهولندا غالبا ما تكون مشحونة بمفاهيم ومقولات لم يتحقق بعد من إجرائيتها و "موضوعيتها". وذلك في الوقت الذي لم تحظ به هذه الظاهرة بعد بدراسة واسعة من الداخل ومن مختلف الجوانب تمكِّن من تحقيق تراكم معرفي يعطينا مشروعية التنظير لهذه الهجرة. لهذا يتراءى لي بأن القص والحكي عن تفاصيل المعيش اليومي لها يكون هو الأنسب لمقاربة هذه الظاهرة في اللحظة الراهنة...
فلننصت سويا لقصة علية قبل التعقيب عليها كل من رؤيته وزاويته وإطاره المرجعي الخاص. هذه رسالة من فتاة تقيم بهولندا سلمتني ايها عبر المسنجر وانا قمت بنشرها في المنتدى الامازيغي بموافقتها...
بداية القصة
مع اقتراب عطلة الصيف، أصبحت علية تحس بمنتهى السعادة. فبعد أحد عشر شهرا من العمل المرهق والدؤوب كمدرسة لعلم التواصل، وبعد أن أصبح لها مسكن مستقل بها، وبعد أن اشترت سيارة مستعملة لها حين حصولهاعلى رخصة السياقة بجهد جهيد قررت قضاء ثلاثة أسابيع من عطلتها في الريف.
علية فخورة هذه المرة بنفسها، إنها ستصحب معها والديها وستريحهما من عناء السفر المرهق إلى المغرب مع الأقارب كما اعتادوا على ذلك لسنوات. طبعا قبل الانطلاق في السفر وضعت علية لنفسها برنامجا لعطلتها: حضور عرسين ببني بوعياش في الأسبوع الأول؛ فالتكشيطة قد قامت بطلبها مسبقا، ثم الانتقال إلى مدينة الحسيمة في الأسبوع الثاني لدى صديقة لها أتت كذلك من هولندا، الأمر الذي سيمكنها من الاحتكاك عن قرب بثقاقتها الأصلية ومن تعلُّم الريفية التي تخجل من التداول بها مع أصحاب البلدة بطلاقة، على أن يكون الأسبوع الأخير لها رفقة والديها بمدينة طنجة عند الخالة رقية. ربما ستلتقط بعض الكلمات العربية كذلك، وتجدد الطاقة، وتعود وقد شربت من معين الريف الذي تحس بهوية الانتماء إليه رغم ميلادها وترعرعها بهولندا التي تتنكر لها.
اليوم الأول:
وصلت علية بني بوعياش بأمان، وزعت الهدايا واحتفظت بالبعض منها. بعد برهة صعدت إلى سطح المنزل قبل غروب الشمس.. السماء زرقاء صافية، الشمس تطلق خيوطها على كل البلدة، ومن الشارع تنبعث أصوات حية وضجيج السيارات مع المنبهات التي لا تهدأ، أحست بنشوة عارمة تعتريها وبعرق يتصبب من جسمها الأبيض الناصع، أمر لم تعهده قط في هولندا البارد جوها والملبدة سماؤها غيوما طيلة السنة. بعد أن سرقت بعض الاتصالات عبر هاتفها النقال لدى زميلاتها بهولندا لتخبرهن بتواجدها في المغرب إذ بها تسمع من يناديها بصوت عال لم تعتده طالبا منها النزول وارتداء لباس يستر عورتها و تناول الطعام والجلوس مع الزوار... لتغط بعد ذلك في نوم عميق.
اليوم الثاني:
أثناء تناول الفطور المغربي القح إذ بأحد ما يطرق باب المنزل؛ همت علية بفتح الباب: إنها الجارة مع ابنتها، عرفت الجارة بنفسها وأذنت لها علية بالدخول وهي تحمل معها ثلاث ديكة بلدية من أرجلها. تم الترحاب مع كثرة القبل المصاحبة بالكلام والعناق على العادة الريفية المألوفة بين النساء.
حين مغادرتها أعطت لها علبتين من "قهوة الخارج "وعلبتين من "شاي الخارج" كذلك، ودعت أم علية الجارة لتطلب حديثا سريا مباشرة مع ابنتها علية:
الأم: " الجارة أتت من أجل طلب يدك لابنها"؛
علية: ردت علية مباشرة: "من يكون هذا الإبن؟"؛
الأم: "قالت بأنه شاب وسيم في مقتبل العمر، يشتغل كسائق طاكسي، متدين وقور، لا يعرف للتبغ والحشيش والخمر مذاقا، أراد أن يتزوج على سنة الله ورسوله!"؛
علية: " كيف بهذا الوقور أن يتزوج بنتا لا يعرفها قط، أليس هذا ضرب من القمار؟ ماما لنهيء أنفسنا للذهاب إلى عرس الزفاف غدا"، ردت علية منصرفة من دون أن تعير الأمر أي اهتمام.....
اليوم الثالث- ذامغرا:
مباشرة بعد فطور الصباح دق الباب كالعادة؛ امرأة بديكة وكمية من اللوز المحلي أمام الباب؛ منحت علب البن والشاي ردا على دين الديكة، وجرى حديث سري بين الأم وعلية المنشغلة أمام المرآة وهي تستدير وتستدير للتمتع بجمال تكشيطتها المغربية. " السيارة جاهزة، لننصرف إلى العرس احملن هداياكن" ردت علية. بعد برهة وصلت السيارة مكان حفل العرس.. استقبال حار بالزغاريد وبطلقات الأشهب النارية المكثفة؛ بالمقابل خرج رحاج حدو أبو علية مزهوا بنفسه وهو يحس بوجوده الخاص بين ظهرانيه يفتح حقيبة سيارة ابنته ليفرغ منها صنادق المشروبات السوداء والبرتقالية وخناشي الطحين وخبز الفران العصري وهدايا عصرية، ويناول امرأته أمام مرأى المحلقين حوله 2000 درهم يخفيها داخل ظرف أبيض. ليصعد بعدها الرجال إلى غرفتهم الفوقية وتدخل النساء إلى البيت السفلي ويقاد الأطفال إلى خيمة مع أصحاب الدوار.
بين لحظة وأخرى يتم إدخال براريد الشاي والحلوى والقاوقاو إلى بيت ضيافة النساء.. انتفخت علية بكؤوس الشاي المحلاة بكثرة السكر، أتعبها الجلوس وكثرة العيون المحملقة فيها بلا توقف. لا غناء ولا رقص ولا مرح ولا بندير ولا إزران، ولا لالابويا، ولا وجود للباس ريفي بين النساء الحاضرات؛ وهذا عكس ما كانت تقرأه بلهف شديد من خلال المواقع الإلكترونية بهولندا المتحدثة عن الثقافة والهوية الأمازيغيتين حين كانت تبحث عن ذاتها. أحست بمثانتها ممتلئة شايا، و بنوع من الضيق، وبعقوبة داخل هذا البيت النسوي المكتظ الذي أصبحت هواتف النساء المحمولة فيه لا تتوقف عن الرنين.
حان وقت الوليمة والافتراس: بشكل فوضوي جمعت أطباق الحلوى وكؤوس الشاي ليتم غسل الأيادي ابتداء من جهة اليمين نحو صف اليسار المتراص بالنساء والشابات؛ أدخلت بعده أطباق من العسل مع السمن، جمعت هذه وادخلت أطباق ممتلئة بأحشاء الغنم، وزعت قنينات المشروبات والماء المعدني، أخرجت بعده هذه الأطباق لتدخل أطباق البستيلا الدخيلة مؤخرا إلى الريف لتليها أطباق اللحوم وهي لحوم بدون خضر، أخرجت هذه الأطباق وأدخلت أطباق الدجاج، اخرجت هذه الأطباق لتدخل أطباق الفواكه لتنتهي أخيرا معركة الافتراس والبذخ القسري، وتعود مرحلة براريد الشاي والحلويات من جديد فالنساء ماكثات في البيت جالسات إلى حين غروب الشمس!!. الأغاني المنبعثة من جهاز التسجيل من ركن البيت أصبحت تحدث الصداع إلى درجة الغثيان بسبب صوتها المرتفع وعدم توقفها واسترسالها المستمر، ولغرابة تلك الأغاني غير المفهومة لغتها ولعدم اكتراث وتجاوب المدعوات معها قط!!!
يا للعقوبة!
من كثرة العياء لم تكترث علية بالأحداث الموالية للزفاف؛ سوى فترة إحضار العروسة التي كانت في منتهى الفوضى والغرابة: صفوف من السيارات تتسابق، شجار، نفير ومنبهات السيارات لا تنقطع، استعراض خارجي غريب، كثرة الكاميرات، فوضى عارمة ، صياح للبنات لا معنى له (اللهم صل على رسول الله؛ إذا جاء سيدنا محمد، الله مع الجاه العالي يو يو يو يو يو )!!!
أين طقوس العرس الريفي؟ أين رحني نغاي ذ-أيمون؟ أين من ثقافة الريف ما حكته لي أمي بهولندا بافتخار واعتزاز؟ أين زي العروسة الريفية؟ أين أغاني استقبال العروسة التي حفظتها لي أمي عن ظهر قلب؟ أين رقصات البنات الريفيات؟ أين إبداعاتهن التي تظهر في هذه المناسبات؟ أين شباب وشابات الريف الذين تناغموا خلال الأفراح فيما بينهم وأضفوا على هذه المناسبات الاجتماعية نكهة وجمالا أخاذا؟ أين ما قرأته عن ثقافة الريف بالمهجر؟ كم كنت أحن وأتشوق لهذا لأعيشه عن قرب. ما هذا السراب؟ ما هذا المسخ؟ هل اغتصب الريف؟ هل اغتصبت ثقافته وطقوسه في العمق؟ هل نحن أصحاب الخارج شركاء في هذا المسخ ؟ هل مثقفوهم ومجتمعهم المدني واع بخطورة المسألة؟ اين الحركة النسوية الريفية من هذا؟ أيا رالا يمّا إينو!
اليوم الرابع:
فطور تخلله طرق الباب الخارجي وضيوف بدون موعد مسبق يطلبون يد بنت الخارج ....؛
اليوم الخامس:
فطور، طرق الباب بين الحين والآخر، طلب بنت الخارج وحضور عرس ريفي مغتصب.
يوم الحسم:
استيقظت علية على غير عادتها: دوار في الرأس، عدم الرغبة في الكلام مع سيطرة نوع من السوداوية عليها. بعد تناول الفطور بصمت تنبهت علية إلى أن المبلغ المادي الذي جمعته لقضاء عطلة سعيدة بالبلدة قد ذهب مهب الريح في رمشة عين، وهي لازالت في اليوم السادس من عطلتها! بعد برهة دق باب المنزل من جديد، فتحت علية الباب فإذا بها أمام "ميمونت"، امراة خالها، منتصبة امام الباب مع ثلاث ديكة مزركشة ورطلين عسلا وسلة ممتلئة لوزا. دخلت وتم العناق لتليها الجلسة السرية.
الأم: " علية إينو، الآن وجدنا لك الرجل المناسب. إنه ابن خالك سعيد، شاب لا مثال له في الأخلاق والعلم، متخرج من الجامعة، وقور مؤدب ووسيم، إياك وإياك من رفضه وإلا فسوف تحدثين لنا عارا وفتنة داخل العائلة، أرجوك علية إينو".
علية: بعد صمت عميق همت بالرد: " الآن سأريح نفسي وأريحكم من كثرة الزوار وكثرة الطلبات وأوقف توسع المزرعة على السطح التي أصبحت تضيق بالدجاج. أمي لقد قبلت بابن الخال زوجا لي فورا وبدون أية قيود و شروط" ؛
الأم: " الله إثاعليم أ علية إينو أ ذسا ينو حنّو" وهمت بتقبيلها بكل ما أوتيت من قوة.
برنامج علية الصيفي ذهب الآن أدراج الرياح، لقد دخلت منعطفا جديدا: أتت بلدتها سائحة زائرة لترجع مطعمة بابن سبعة جبال، ابن الثقافة الروحية، هذه الثقافة التي سكنتها في المهجر واعتزت بها واتخذتها هوية لها من دون أن تعايشها من الداخل، فهنيئا لك علية ومع أطيب المتمنيات!
قضت علية الباقي من وقتها وهي تحسب الأيام الباقية لها للعودة كالسجين المغربي الذي تمتلئ جدران زنزانته بعلامات XXX وهو يعد أيامه الباقية أولا، وفي تحضير الأوراق الإدارية المرتبطة بالزواج المغربي ضمن تعقيدات إدارية مغربية ومساطر معقدة وغموض مقصود لم تعهده بالبلد السعيد ثانية.
رجعت علية إلى أمستردام وتنفست الصعداء وأحست بوجودها وبحريتها الفردية التي فقدتها هناك خلال عطلتها. سارعت بسيارتها إلى مطار أمستردام لاستقبال البطل. ها هو قد وصل مرتديا سروالا أنيقا وأحذية جديدة ومعطفا جلديا أسودا وحاملا حقيبة. بعد برهة وجد نفسه بمنزل أنيق، خلع معطفه الجلدي وهم بفتح حقيبته وأخذ بخرج هدايا لزوجته، أغلبها ديكورات من البازار ورائحة الورد القادمة من مليلية، وكتاب طهي مغربي للالا شميشة، وكتاب تعلم اللغة العربية للمبتدئين، وكتاب تعلم الصلاة، وسجادة أنيقة وبعض كتبه الخاصة التي تعنى بالمجال النظري كالخطابات الدينية والعقل الغربي والحداثة وما بعد الحداثة والحركة الأمازيغية ...
الوصية:
نظرت علية إلى الساعة وهي تقترب من الثالثة ظهرا وقالت للبطل: " أشكرك يا ابن العم على هداياك الجميلة، ليس لدي الآن متسع من الوقت.. أود الآن أن أعرفك بالمنزل وبالقوانين الداخلية، اتبعني من فضلك واصغ إلي جيدا. هذا البهو يمكن لك الجلوس فيه ومشاهدة التلفزة إن شئت وتناول طعامك، هذا هو المطبخ، يمكن لك أن تأخذ من الثلاجة ما تحتاجه، نحن هنا في هولندا؛ لا وجود لوجبة الغداء لدينا كما هو الأمر بالريف.. هذا هو المرحاض، وهنا يوجد بيت الطهارة، وهذا هو بيت النوم الخاص بي والمحرم عليك دخوله بالمرة، وهذا هو بيتك الخاص بك، لقد جهزته لك. هذا من جهة ومن جهة أخرى أصارحك بمنتهى الصراحة وبكامل الشفافية والوضوح يابن الخال، إن لي صديقا أحبه لا يمكن لي الاستغناء عنه، تعرفنا على بعضنا البعض لمدة طويلة وهو يزورني كل يوم سبت وأحيانا ينام معي في فراشي. عليك أن لا تنزعج منه وحاول أن لا تحدث لي ولنفسك قلاقل من فضلك؛ وأخيرا وليس آخرا أتمنى لك إقامة طيبة بهولندا وأنا رهن إشارتك لمساعدتك في المستجدات الجديدة التي ستطرأ على حياتك بهذا البلد من تسجيل بالبلدية وتسجيل لتعلم اللغة وشرح لرسائلك وأوراقك؛ وأرجو أن لايفاجئك هذا التصرف، أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني، لا وجود لصداقة ولا لود يجمع بيننا، كل ما يجمعنا معا هو القرابة العائلية، لهذا فحين قدوم أمك لطلب يدي كان هدفك الخفي وغير المعلن بكل تأكيد هو طلب يد هولندا وليس يدي الشخصي، لم أكن أنا بالنسبة لك إلا مجرد قنطرة للعبور؛ فعلا لقد عبرت الآن، وساعدتك على ذلك، ولن أخونك في هذا الأمر يا ابن الخال حتى تكمتل عدتك القانونية بعد ثلاث سنوات تكون حينها حرا طليقا لتتزوج بالتي سرقت قلبك وعانقت أحلامك. مرة أخرى أتمنى لك مقاما طيبا بهذا البلد ".
سلمت له المفاتيح، لبست معطفها وانصرفت بسرعة...
قصة واقعية منقولة
فلننصت سويا لقصة علية قبل التعقيب عليها كل من رؤيته وزاويته وإطاره المرجعي الخاص. هذه رسالة من فتاة تقيم بهولندا سلمتني ايها عبر المسنجر وانا قمت بنشرها في المنتدى الامازيغي بموافقتها...
بداية القصة
مع اقتراب عطلة الصيف، أصبحت علية تحس بمنتهى السعادة. فبعد أحد عشر شهرا من العمل المرهق والدؤوب كمدرسة لعلم التواصل، وبعد أن أصبح لها مسكن مستقل بها، وبعد أن اشترت سيارة مستعملة لها حين حصولهاعلى رخصة السياقة بجهد جهيد قررت قضاء ثلاثة أسابيع من عطلتها في الريف.
علية فخورة هذه المرة بنفسها، إنها ستصحب معها والديها وستريحهما من عناء السفر المرهق إلى المغرب مع الأقارب كما اعتادوا على ذلك لسنوات. طبعا قبل الانطلاق في السفر وضعت علية لنفسها برنامجا لعطلتها: حضور عرسين ببني بوعياش في الأسبوع الأول؛ فالتكشيطة قد قامت بطلبها مسبقا، ثم الانتقال إلى مدينة الحسيمة في الأسبوع الثاني لدى صديقة لها أتت كذلك من هولندا، الأمر الذي سيمكنها من الاحتكاك عن قرب بثقاقتها الأصلية ومن تعلُّم الريفية التي تخجل من التداول بها مع أصحاب البلدة بطلاقة، على أن يكون الأسبوع الأخير لها رفقة والديها بمدينة طنجة عند الخالة رقية. ربما ستلتقط بعض الكلمات العربية كذلك، وتجدد الطاقة، وتعود وقد شربت من معين الريف الذي تحس بهوية الانتماء إليه رغم ميلادها وترعرعها بهولندا التي تتنكر لها.
اليوم الأول:
وصلت علية بني بوعياش بأمان، وزعت الهدايا واحتفظت بالبعض منها. بعد برهة صعدت إلى سطح المنزل قبل غروب الشمس.. السماء زرقاء صافية، الشمس تطلق خيوطها على كل البلدة، ومن الشارع تنبعث أصوات حية وضجيج السيارات مع المنبهات التي لا تهدأ، أحست بنشوة عارمة تعتريها وبعرق يتصبب من جسمها الأبيض الناصع، أمر لم تعهده قط في هولندا البارد جوها والملبدة سماؤها غيوما طيلة السنة. بعد أن سرقت بعض الاتصالات عبر هاتفها النقال لدى زميلاتها بهولندا لتخبرهن بتواجدها في المغرب إذ بها تسمع من يناديها بصوت عال لم تعتده طالبا منها النزول وارتداء لباس يستر عورتها و تناول الطعام والجلوس مع الزوار... لتغط بعد ذلك في نوم عميق.
اليوم الثاني:
أثناء تناول الفطور المغربي القح إذ بأحد ما يطرق باب المنزل؛ همت علية بفتح الباب: إنها الجارة مع ابنتها، عرفت الجارة بنفسها وأذنت لها علية بالدخول وهي تحمل معها ثلاث ديكة بلدية من أرجلها. تم الترحاب مع كثرة القبل المصاحبة بالكلام والعناق على العادة الريفية المألوفة بين النساء.
حين مغادرتها أعطت لها علبتين من "قهوة الخارج "وعلبتين من "شاي الخارج" كذلك، ودعت أم علية الجارة لتطلب حديثا سريا مباشرة مع ابنتها علية:
الأم: " الجارة أتت من أجل طلب يدك لابنها"؛
علية: ردت علية مباشرة: "من يكون هذا الإبن؟"؛
الأم: "قالت بأنه شاب وسيم في مقتبل العمر، يشتغل كسائق طاكسي، متدين وقور، لا يعرف للتبغ والحشيش والخمر مذاقا، أراد أن يتزوج على سنة الله ورسوله!"؛
علية: " كيف بهذا الوقور أن يتزوج بنتا لا يعرفها قط، أليس هذا ضرب من القمار؟ ماما لنهيء أنفسنا للذهاب إلى عرس الزفاف غدا"، ردت علية منصرفة من دون أن تعير الأمر أي اهتمام.....
اليوم الثالث- ذامغرا:
مباشرة بعد فطور الصباح دق الباب كالعادة؛ امرأة بديكة وكمية من اللوز المحلي أمام الباب؛ منحت علب البن والشاي ردا على دين الديكة، وجرى حديث سري بين الأم وعلية المنشغلة أمام المرآة وهي تستدير وتستدير للتمتع بجمال تكشيطتها المغربية. " السيارة جاهزة، لننصرف إلى العرس احملن هداياكن" ردت علية. بعد برهة وصلت السيارة مكان حفل العرس.. استقبال حار بالزغاريد وبطلقات الأشهب النارية المكثفة؛ بالمقابل خرج رحاج حدو أبو علية مزهوا بنفسه وهو يحس بوجوده الخاص بين ظهرانيه يفتح حقيبة سيارة ابنته ليفرغ منها صنادق المشروبات السوداء والبرتقالية وخناشي الطحين وخبز الفران العصري وهدايا عصرية، ويناول امرأته أمام مرأى المحلقين حوله 2000 درهم يخفيها داخل ظرف أبيض. ليصعد بعدها الرجال إلى غرفتهم الفوقية وتدخل النساء إلى البيت السفلي ويقاد الأطفال إلى خيمة مع أصحاب الدوار.
بين لحظة وأخرى يتم إدخال براريد الشاي والحلوى والقاوقاو إلى بيت ضيافة النساء.. انتفخت علية بكؤوس الشاي المحلاة بكثرة السكر، أتعبها الجلوس وكثرة العيون المحملقة فيها بلا توقف. لا غناء ولا رقص ولا مرح ولا بندير ولا إزران، ولا لالابويا، ولا وجود للباس ريفي بين النساء الحاضرات؛ وهذا عكس ما كانت تقرأه بلهف شديد من خلال المواقع الإلكترونية بهولندا المتحدثة عن الثقافة والهوية الأمازيغيتين حين كانت تبحث عن ذاتها. أحست بمثانتها ممتلئة شايا، و بنوع من الضيق، وبعقوبة داخل هذا البيت النسوي المكتظ الذي أصبحت هواتف النساء المحمولة فيه لا تتوقف عن الرنين.
حان وقت الوليمة والافتراس: بشكل فوضوي جمعت أطباق الحلوى وكؤوس الشاي ليتم غسل الأيادي ابتداء من جهة اليمين نحو صف اليسار المتراص بالنساء والشابات؛ أدخلت بعده أطباق من العسل مع السمن، جمعت هذه وادخلت أطباق ممتلئة بأحشاء الغنم، وزعت قنينات المشروبات والماء المعدني، أخرجت بعده هذه الأطباق لتدخل أطباق البستيلا الدخيلة مؤخرا إلى الريف لتليها أطباق اللحوم وهي لحوم بدون خضر، أخرجت هذه الأطباق وأدخلت أطباق الدجاج، اخرجت هذه الأطباق لتدخل أطباق الفواكه لتنتهي أخيرا معركة الافتراس والبذخ القسري، وتعود مرحلة براريد الشاي والحلويات من جديد فالنساء ماكثات في البيت جالسات إلى حين غروب الشمس!!. الأغاني المنبعثة من جهاز التسجيل من ركن البيت أصبحت تحدث الصداع إلى درجة الغثيان بسبب صوتها المرتفع وعدم توقفها واسترسالها المستمر، ولغرابة تلك الأغاني غير المفهومة لغتها ولعدم اكتراث وتجاوب المدعوات معها قط!!!
يا للعقوبة!
من كثرة العياء لم تكترث علية بالأحداث الموالية للزفاف؛ سوى فترة إحضار العروسة التي كانت في منتهى الفوضى والغرابة: صفوف من السيارات تتسابق، شجار، نفير ومنبهات السيارات لا تنقطع، استعراض خارجي غريب، كثرة الكاميرات، فوضى عارمة ، صياح للبنات لا معنى له (اللهم صل على رسول الله؛ إذا جاء سيدنا محمد، الله مع الجاه العالي يو يو يو يو يو )!!!
أين طقوس العرس الريفي؟ أين رحني نغاي ذ-أيمون؟ أين من ثقافة الريف ما حكته لي أمي بهولندا بافتخار واعتزاز؟ أين زي العروسة الريفية؟ أين أغاني استقبال العروسة التي حفظتها لي أمي عن ظهر قلب؟ أين رقصات البنات الريفيات؟ أين إبداعاتهن التي تظهر في هذه المناسبات؟ أين شباب وشابات الريف الذين تناغموا خلال الأفراح فيما بينهم وأضفوا على هذه المناسبات الاجتماعية نكهة وجمالا أخاذا؟ أين ما قرأته عن ثقافة الريف بالمهجر؟ كم كنت أحن وأتشوق لهذا لأعيشه عن قرب. ما هذا السراب؟ ما هذا المسخ؟ هل اغتصب الريف؟ هل اغتصبت ثقافته وطقوسه في العمق؟ هل نحن أصحاب الخارج شركاء في هذا المسخ ؟ هل مثقفوهم ومجتمعهم المدني واع بخطورة المسألة؟ اين الحركة النسوية الريفية من هذا؟ أيا رالا يمّا إينو!
اليوم الرابع:
فطور تخلله طرق الباب الخارجي وضيوف بدون موعد مسبق يطلبون يد بنت الخارج ....؛
اليوم الخامس:
فطور، طرق الباب بين الحين والآخر، طلب بنت الخارج وحضور عرس ريفي مغتصب.
يوم الحسم:
استيقظت علية على غير عادتها: دوار في الرأس، عدم الرغبة في الكلام مع سيطرة نوع من السوداوية عليها. بعد تناول الفطور بصمت تنبهت علية إلى أن المبلغ المادي الذي جمعته لقضاء عطلة سعيدة بالبلدة قد ذهب مهب الريح في رمشة عين، وهي لازالت في اليوم السادس من عطلتها! بعد برهة دق باب المنزل من جديد، فتحت علية الباب فإذا بها أمام "ميمونت"، امراة خالها، منتصبة امام الباب مع ثلاث ديكة مزركشة ورطلين عسلا وسلة ممتلئة لوزا. دخلت وتم العناق لتليها الجلسة السرية.
الأم: " علية إينو، الآن وجدنا لك الرجل المناسب. إنه ابن خالك سعيد، شاب لا مثال له في الأخلاق والعلم، متخرج من الجامعة، وقور مؤدب ووسيم، إياك وإياك من رفضه وإلا فسوف تحدثين لنا عارا وفتنة داخل العائلة، أرجوك علية إينو".
علية: بعد صمت عميق همت بالرد: " الآن سأريح نفسي وأريحكم من كثرة الزوار وكثرة الطلبات وأوقف توسع المزرعة على السطح التي أصبحت تضيق بالدجاج. أمي لقد قبلت بابن الخال زوجا لي فورا وبدون أية قيود و شروط" ؛
الأم: " الله إثاعليم أ علية إينو أ ذسا ينو حنّو" وهمت بتقبيلها بكل ما أوتيت من قوة.
برنامج علية الصيفي ذهب الآن أدراج الرياح، لقد دخلت منعطفا جديدا: أتت بلدتها سائحة زائرة لترجع مطعمة بابن سبعة جبال، ابن الثقافة الروحية، هذه الثقافة التي سكنتها في المهجر واعتزت بها واتخذتها هوية لها من دون أن تعايشها من الداخل، فهنيئا لك علية ومع أطيب المتمنيات!
قضت علية الباقي من وقتها وهي تحسب الأيام الباقية لها للعودة كالسجين المغربي الذي تمتلئ جدران زنزانته بعلامات XXX وهو يعد أيامه الباقية أولا، وفي تحضير الأوراق الإدارية المرتبطة بالزواج المغربي ضمن تعقيدات إدارية مغربية ومساطر معقدة وغموض مقصود لم تعهده بالبلد السعيد ثانية.
رجعت علية إلى أمستردام وتنفست الصعداء وأحست بوجودها وبحريتها الفردية التي فقدتها هناك خلال عطلتها. سارعت بسيارتها إلى مطار أمستردام لاستقبال البطل. ها هو قد وصل مرتديا سروالا أنيقا وأحذية جديدة ومعطفا جلديا أسودا وحاملا حقيبة. بعد برهة وجد نفسه بمنزل أنيق، خلع معطفه الجلدي وهم بفتح حقيبته وأخذ بخرج هدايا لزوجته، أغلبها ديكورات من البازار ورائحة الورد القادمة من مليلية، وكتاب طهي مغربي للالا شميشة، وكتاب تعلم اللغة العربية للمبتدئين، وكتاب تعلم الصلاة، وسجادة أنيقة وبعض كتبه الخاصة التي تعنى بالمجال النظري كالخطابات الدينية والعقل الغربي والحداثة وما بعد الحداثة والحركة الأمازيغية ...
الوصية:
نظرت علية إلى الساعة وهي تقترب من الثالثة ظهرا وقالت للبطل: " أشكرك يا ابن العم على هداياك الجميلة، ليس لدي الآن متسع من الوقت.. أود الآن أن أعرفك بالمنزل وبالقوانين الداخلية، اتبعني من فضلك واصغ إلي جيدا. هذا البهو يمكن لك الجلوس فيه ومشاهدة التلفزة إن شئت وتناول طعامك، هذا هو المطبخ، يمكن لك أن تأخذ من الثلاجة ما تحتاجه، نحن هنا في هولندا؛ لا وجود لوجبة الغداء لدينا كما هو الأمر بالريف.. هذا هو المرحاض، وهنا يوجد بيت الطهارة، وهذا هو بيت النوم الخاص بي والمحرم عليك دخوله بالمرة، وهذا هو بيتك الخاص بك، لقد جهزته لك. هذا من جهة ومن جهة أخرى أصارحك بمنتهى الصراحة وبكامل الشفافية والوضوح يابن الخال، إن لي صديقا أحبه لا يمكن لي الاستغناء عنه، تعرفنا على بعضنا البعض لمدة طويلة وهو يزورني كل يوم سبت وأحيانا ينام معي في فراشي. عليك أن لا تنزعج منه وحاول أن لا تحدث لي ولنفسك قلاقل من فضلك؛ وأخيرا وليس آخرا أتمنى لك إقامة طيبة بهولندا وأنا رهن إشارتك لمساعدتك في المستجدات الجديدة التي ستطرأ على حياتك بهذا البلد من تسجيل بالبلدية وتسجيل لتعلم اللغة وشرح لرسائلك وأوراقك؛ وأرجو أن لايفاجئك هذا التصرف، أنا لا أعرفك وأنت لا تعرفني، لا وجود لصداقة ولا لود يجمع بيننا، كل ما يجمعنا معا هو القرابة العائلية، لهذا فحين قدوم أمك لطلب يدي كان هدفك الخفي وغير المعلن بكل تأكيد هو طلب يد هولندا وليس يدي الشخصي، لم أكن أنا بالنسبة لك إلا مجرد قنطرة للعبور؛ فعلا لقد عبرت الآن، وساعدتك على ذلك، ولن أخونك في هذا الأمر يا ابن الخال حتى تكمتل عدتك القانونية بعد ثلاث سنوات تكون حينها حرا طليقا لتتزوج بالتي سرقت قلبك وعانقت أحلامك. مرة أخرى أتمنى لك مقاما طيبا بهذا البلد ".
سلمت له المفاتيح، لبست معطفها وانصرفت بسرعة...
قصة واقعية منقولة