الأمازيغية والتعديلات الدستورية
قراءة في "ميثاق الجمعيات الأمازيغية بالريف من أجل دسترة الأمازيغية"
يشكل مطلب دسترة الأمازيغية، كإحدى أهم المطالب الراهنة التي ترفعها وتناضل من أجلها الحركة الأمازيغية، أهمية قصوى على مستوى النقاش السياسي والثقافي الجاري حاليا بالمغرب، ولا سيما ما يتعلق برهانات الإصلاح السياسي والتعديل الدستوري المطروح بشدة في الساحة السياسية والحقوقية المغربية، في أفق بلورة ترسانة قانونية ودستورية ومؤسساتية قادرة على تكريس دولة الحق والقانون وخيار الديموقراطية الحقيقية والمواطنة الفعلية وكسب رهان "الانتقال الديموقراطي" الذي يبدو أنه لم ينطلق بعد
ومن بين القضايا المطروحة على أجندة التعديل الدستوري المقبل بالمغرب، مطلب دسترة الأمازيغية كلغة وطنية ورسمية والتنصيص على الانتماء الإفريقي والمتوسطي والهوية الأمازيغية للشعب المغربي... كمدخل أساسي لتوفير الحماية القانونية للأمازيغية (لغة، ثقافة، هوية وحضارة) داخل دستور ديموقراطي شكلا ومضمونا وكآلية لمصالحة المغرب مع ذاته وهويته الأمازيغية وكقاعدة أساسية لبناء ديموقراطية حديثة. وفي هذا الإطار، وضمن سياق تفعيل دينامية الحركة الأمازيغية بخصوص هذا الموضوع، أصدرت الجمعيات الأمازيغية بالريف ميثاقا من أجل دسترة الأمازيغية قصد المساهمة في بلورة تصور وطني وموحد حول هذا المطلب العادل والمشروع، يتضمن ديباجة و خمس نقط مطلبية تهم محور التعديل الدستوري.
الديباجة:
لقد قدم الشعب الأمازيغي عبر سيرورته التاريخية الكثير من التضحيات في سبيل الدفاع عن كيانه ووجوده وحريته وأرضه، وخاض في سبيل ذلك نضالات وكفاحات وكل أشكال المقاومة عبر حركات تحررية كثيرة وثورات عظمى على مر العصور. ولعل الحروب والمقاومات التي خاضها إيمازيغن في مختلف المناطق المغربية من أجل التصدي للإستعمار الأجنبي خلال بداية القرن العشرين، لدليل على قوة وشجاعة هذا الشعب في مواجهته للأخطار التي تهدده. وقد شكلت هذه الحركات التحررية نموذجا رائدا يقتدى به عبر مختلف مناطق العالم، خاصة حرب التحرير التي خاضها أبطال المقاومة المسلحة مثل عسو أوبسلام، موحا أوحموا أزايي، مولاي موحند... الذي نال إعجاب كبار الثوار وقادة الحركات التحررية العالمية وشكل مدرسة حقيقية للتحرر الوطني.
وفي مقابل ذلك، وأمام طبيعة الأحداث السياسية التي أعقبت مرحلة ما بعد 1956 والمجريات التي ستتخذها هذه الأحداث، ونتيجة للسياسة التي اتبعتها الدولة المغربية في مختلف المجالات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية عبر التحكم في زمام الأمور ومقاليد الحكم والسلطة من خلال تحالف المخزن مع النخب المدينية التي جاءت بالاستقلال الشكلي الذي منحته اتفاقية "إكس-ليبان" على حساب كفاح الشعب المغربي وحركات التحرر ذات الجذور الثقافية والاجتماعية الأصيلة عكس أصول هذه النخب والعائلات الممتدة، فقد كان ما كرسته دولة "الاستقلال" لا يتماشى وحقيقة التضحيات التي قدمت إبان مرحلة التحرير وتطلعات المغاربة بخصوص دولة وطنية وفية لنهج هذه الحركات، خصوصا وأن الدولة المغربية صارت على نهج الدولة الفرنسية ذات النظام اليعقوبي المركزي والشمولي الذي عمل على تقويض البنيات الاقتصادية والسياسية والثقافية والمؤسسات والأنظمة الأمازيغية الموروثة داخل المجتمع إبان فترة الاستعمار، وهو المسار الذي جسدته الدولة المغربية عبر تهميش الأمازيغ واعتماد مقاربة تقوم على الإقصاء السياسي والحصار الاقتصادي والقمع والعقاب الجماعي...
ومن المجالات التي شكلت القناة الرئيسية في اتجاه تكريس هذا الخيار وتثبيت دعائم وثوابت هذا النهج الأحادي الذي سلكته السلطة الرسمية بالبلاد كنموذج استيعابي ظل في يد النخب السياسية والحاكمة، قطاع التعليم الذي وضعت أسسه ومرتكزاته وفق هذا النموذج الذي لا ينبني على مبدأ التعدد والغنى والتنوع اللغوي والثقافي والخصوصيات الحضارية التي تميز هذا الشعب، السياسة التعليمية التي قامت على ثوابت المبادئ الأربعة التي شكل مبدأ التعريب جوهرها الأساسي كسياسة تأكد أن الهدف من ورائها هو تعريب الأمازيغ ومصادرة كل المعالم الحضارية والثقافية لهذا الشعب وتحطيم الإرث الوطني ومعالم الهوية الأمازيغية، وهو ما تحقق عبر تعريب نسبة كبيرة من الأمازيغيين في ظرف وجيز وعبر تعريب أسماء الأعلام والأماكن وتعريب المحيط (التعريب الشامل والأعمى) كما "أصبحت الهوية الأمازيغية مستهدفة من قبل كل الإيديولوجيات السائدة في المغرب والمستوردة من الشرق أو الغرب، والتي انعكست سلبا على الإنسان الأمازيغي في المغرب وجعلته يعيش اضطرابا واستلابا في وجوده. وهكذا لم تجد النخب السياسية المتعاقبة على الحكم في المغرب إلا إقصاء الأمازيغية وإخفاء كل الحقائق المرتبطة بتاريخها وسيلة فعالة لتعزيز سلطتها السياسية، كما أن سياسة تعريب التعليم والحياة العامة للمواطنين كرست دونية الأمازيغية، ووفرت للنخب السياسية الحاكمة إستراتيجية إعادة إنتاج نفسها وضمان استمرارية وجودها في السلطة، في مقابل تجهيل وتهجير وتفقير فئات واسعة من الأمازيغ" (الميثاق).
وإذا كانت الأمازيغية بمثابة القانون الأساسي الذي يضبط ويؤطر العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية داخل المجتمع وتشكل محور هذا القانون ونظرة الإنسان لكل ما حوله، فإن طبيعة دولة ما بعد 1956 ستستوحي قوانينها تبعا لمنظومة إيديولوجية مشرقية "تتوخى فبركة هوية واحدة بواسطة إضفاء طابع قدسي على اللغة لمجتمع مغاير ومختلف" وهو ما كرسته الدساتير التي تعاقبت على المغرب منذ عهد دستور 7 دجنبر 1962 وصولا إلى دستور 13 شتنبر 1996. وقد "جاءت القوانين الأساسية للأحزاب السياسية بالمغرب صدى وانعكاسا للدساتير المغربية الرسمية وللإيديولوجية المشرقية كاستراتيجية للقطع مع كل ما له علاقة بالأمازيغية في أفق إعداد وإنجاز هوية عرقية خالصة وجاهزة للأمازيغ بالمغرب، وبفضل تحالف هذه الأحزاب مع المخزن وتمكنها من القرار السياسي استطاعت أن تكرس مشروعها وأن تمرره عبر قنوات ومؤسسات الدولة".
وعلى العكس من ذلك، فتهميش الأمازيغية قد تحكم فيه القرار السياسي الاستبعادي وكانت وراءه اعتبارات سياسية وإيديولوجية ومنطلقات تاريخية متعددة. وإذا كان الدستور أسمى قانون بالبلاد وهو الذي يمنح القرارات سلطة التفعيل ويوفر لها الحماية القانونية وصفة الإلزام والتطبيق، وما دام أن الأمازيغية مغيبة ومقصية من الوثيقة الدستورية بالمغرب، فإنه "لهذه الاعتبارات وحتى تتحقق دولة المجتمع بدل مجتمع الدولة القائم، فإن على الدستور المغربي أن يعكس طبيعة مجتمعه السوسيوثقافية لكي يتمتع فيه أفراده بمواطنة حقيقية" كمدخل أساسي ورئيسي نحو التأسيس لمرحلة انتقالية فعلية والإسهام في إرساء معالم ودعائم "الانتقال الديموقراطي" كما هو الشأن بالنسبة للعديد من الدول، مثلما حدث مع دستور 1978 بإسبانيا...
● ترسيم الأمازيغية:
إن أي رد اعتبار للأمازيغية وإحلالها المكانة اللازمة داخل المجتمع والدولة ورفع غطاء التهميش والإقصاء عنها ومصالحة المغرب مع هويته، يمر بالتأكيد عبر التنصيص على اللغة الأمازيغية كلغة وطنية وإقرارها كلغة رسمية ضمن دستور ديموقراطي شكلا ومضمونا، على اعتبار أن ذلك هو المدخل الحقيقي لتكريس المواطنة الحقة والديموقراطية الفعلية، وبمثابة المعالجة الصحيحة لإشكالية التنوع الثقافي واللغوي بالمغرب. ففي غياب الحماية القانونية للأمازيغية التي يوفرها التنصيص عليها داخل أسمى قانون بالبلاد، تبقى كل الإجراءات الأخرى من قبيل إدراجها في التعليم والإعلام... إجراءات شكلية ولا تلامس جوهر هذه القضية الوطنية.
ومن هذا المنطلق، وإذا كانت كل الدساتير التي تعاقبت على المغرب، منذ مشروع دستور 1906 مرورا بدستور 1908 فدستور 7 دجنبر 1962، 1970، 1972، 1992، وصولا إلى دستور 1996، لم تنص على هذا المطلب وظل مغيبا من الوثيقة الدستورية، فقد أصبح من الضروري في هذه المرحلة إعادة النظر في المتن الدستوري الممنوح والقائم حاليا عبر إجراءات وتعديلات تروم وضع دستور ديموقراطي شكلا ومضمونا من خلال الإقرار بوطنية ورسمية اللغة الأمازيغية كمطلب ظلت الحركة الأمازيغية بالمغرب البداية تناضل من أجله وتعتبره الأساس في أية مقاربة ترمي إلى القطع مع "عروبة المغرب" وإعادة الاعتبار للذات والشخصية المغربية.
وبالعودة إلى أدبيات هذه الحركة، نجد أن مطلب الدسترة ظل بمثابة الهاجس المحوري لدى الأمازيغيين منذ ميثاق أكادير (1991) مرورا عبر مختلف بيانات الجمعيات الأمازيغية والمذكرة المرفوعة إلى القصر الملكي من طرف هذه الجمعيات بتاريخ 22 يوليوز 1996 وتصريح فاتح شتنبر 1996، أي قبيل التعديل الدستوري ل 13/09/1996 وكذا "البيان الأمازيغي" وبيانات الحركة الثقافية الأمازيغية... وصولا إلى "ميثاق المطالب الأمازيغية بشأن التعديلات الدستورية" و "ميثاق الجمعيات الأمازيغية بالريف حول دسترة الأمازيغية" الذي جاء فيه بخصوص هذا المطلب، ما يلي: "التنصيص على اللغة الأمازيغية كلغة وطنية وإقرارها كلغة رسمية ضمن دستور ديمقراطي شكلا ومضمونا".
إن أهمية دسترة وترسيم اللغة الأمازيغية داخل صك دستوري ديمقراطي، تتجلى من خلال الحماية القانونية التي ستوفرها عملية الدسترة للأمازيغية حتى تلج مختلف المؤسسات وكذا سلطة التفعيل والأجرأة وضمان وجودها الفعلي في كل هذه المؤسسات (التعليم، الإعلام، الإدارة، القضاء...) ومناحي الحياة العامة؛ إذ أن من أهم المبررات التي باسمها تمنع الأمازيغية من ولوج مختلف فضاءات الحياة العامة، هو غياب نص قانوني يعطي لها مشروعية المرور عبر قنوات مؤسسات الدولة ويؤطرها تأطيرا قانونيا، ويعطي لها قوة الإلزام والتطبيق، رغم وجود خطاب ملكي في هذا الشأن الذي هو –الخطاب والظهير- بمثابة نص قانوني، فالسلطة تتحايل على الثغرات القانونية وتلعب على وتر التناقضات وتتخذ من كل ذلك خلفية لمنع الأمازيغية من ولوج المؤسسات والحياة العامة (نموذج منع المجلس البلدي بالناظور سنة 2003 من كتابة إشارات المرور بالحرف الأمازيغي تيفيناغ). لذلك يبقى المدخل الأساسي لتجاوز كل هذه العراقيل والثغرات هو دسترة الأمازيغية وترسيمها أيضا، بدل التنصيص عليها كلغة وطنية فقط لأن ذلك سيكون من باب تحصيل الحاصل. وإذا كان الإقرار بهذا المطلب لا يستدعي تخصيص أية ميزانية ولا يتنافى وحقيقة الواقع وكذا المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، فإن التساؤل الذي يظل مطروحا إلى حد الآن هو: لماذا لم تعمل الدولة المغربية على الإقرار بوطنية ورسمية اللغة الأمازيغية داخل الوثيقة الدستورية؟! ومن جهة أخرى فإن كان الدستور المغربي والترسانة القانونية ككل تنهل من القوانين الفرنسية (نموذج الدستور المغربي ودستور 1958 بفرنسا) فإن ذلك هو ما يعكس في مستوى من المستويات الطبيعة المركزية للنظام السياسي بالمغرب على شاكلة النظام اليعقوبي بفرنسا، وهو ما لا يترك أي مجال للتنصيص على الحقوق اللغوية والثقافية داخل المتن الدستوري المغربي كجزء من حقوق الإنسان في شموليتها، بخلاف الدستور الإسباني مثلا –وحسب الباحث محمد أتركين- فهو يتضمن أكثر من 46 مادة خاصة بحقوق الإنسان فقط (دستور ما بعد 1978) في الوقت الذي نجد أن دستور المغرب ينص على أن اللغة الرسمية للبلاد هي العربية!.
لذلك لا مناص من الإقرار بمعطى الحق الثقافي واللغوي داخل الدستور كمطلب ظل مغيبا ومقصيا وخارج نطاق فصول الصك الدستوري بالمغرب، وكذلك بإقرار وطنية ورسمية اللغة الأمازيغية وحماية "الحقوق والحريات للأفراد والجماعات" وصيانة حقوق الإنسان وفق ما تنص عليه المواثيق الدولية ومن أجل التأسيس لوثيقة دستورية تقوم على مبادئ المساواة والمواطنة والديمقراطية الشاملة.