في حين اقتصر رواد المقاهي في دمشق قبل سنوات على فئة قليلة من المتقاعدين ، و العاطلين عن العمل الذين يقتلون وقتهم بثمن فنجان قهوة أو كأس شاي ، مع طاولة الزهر .
و بعد أن كانت نزهات الدمشقيين ، و على مدى عقود من الزمن ، تقتصر على مصايفهم الجميلة ، البعيدة نسبيا ؛ و مطاعمهم العصرية المنتشرة في أنحاء مدينتهم ، نشأت بحياءِ مبتديءٍ سياحة داخلية من نوع آخر ، يجمع بين التاريخ العامر بالأمجاد و بين الحداثة في أحلى تجلياتها .
سياحة الماضي ،القريب منه و البعيد ، سياحة الأحياء الشعبية بمساجدها المتنوعة و الغنية ، و حاراتها المتعرجة الضيقة ، و بيوتها المتعانقة بحب و الغافية كجميلة الحكايات تحت أشجار الدفلى و زهر الرمان .
باتت مقاهي دمشق تحفل اليوم بأعداد كبيرة من الرواد لا يكاد يتسع لها المكان القديم المتهالك، و الكراسي ، و الطاولات الصغيرة التي تتسع بصعوبة لصينية صغيرة فيها فنجاني قهوة مع كأس ماء بارد .
لا أحد يعلم السبب المباشر الذي كان وراء هذه الظاهرة التي انتشرت و تزداد انتشارا يوما بعد يوم ،
لكن المؤكد أن اهتماما بدمشق القديمة بكل مظاهرها تبدى بأعداد متزايدة ممن يبحثون بين جنبات المدينة عن أصالة حملت دائما في طياتها ، إضافة إلى رائحة الكباد و النارنج و الياسمين، و أجواء البيت العربي بفسحاته السماوية الرحبة ؛ خيالات بعيدة لعلاقات حميمة نشأت بين سكان المدينة القدامى بشواربهم الكثة الطويلة ولباسهم العربي التقليدي ، و بين قيم و أصول و عادات تبدو في أعين أهل هذا الزمان تراثا فيه ما فيه من عطر و سحر عصي على مقاومة إغرائه .
تغيرت نوعية رواد المقاهي .
فوجدت المرأة طريقها إلى ا لمقهى بعد استبعاد أزلي ، وجلست لأول مرة في ذات المكان الذي كان يهرب إليه رجلها قديما بحثا عن رفقة أقل تطلبا و أكثر تفهما و أعظم أنسا ، و شاركت علنا في طقوس شرب الأرجيلة و القهوة و أحيانا اللعب بطاولة الزهر التي طالما كانت حكرا على الرجال .
و مع وجود المرأة ، و ربما بسببه ، جاءت شرائح مختلفة اجتماعيا و ثقافيا و من كافة الأعمار لتجلس جنبا إلى جنب مع ما تبقى من رواد قدامى بعضهم مستاء للتغيير الذي أصاب المكان ، و أغلبهم منشرح الصدر للإحتفالية الغير مسبوقة التي فاجأت الجميع بفورتها الحارة .
عاد الحكواتي إلى كرسيه المرتفع في صدور القهاوي بعد نفي طويل الأمد ، ليعيد على الأسماع قصة عنترة ، وسيف بن ذي يزن و السير الشعبية بكل أشعارها و بطولتها اللا معقولة و إنما المحببة، في وقت ظن فيه التلفزيون و معه كل وسائل الإعلان و الترفيه الحديثة أنه قد قضى عليها إلى أبد الآبدين ، وأن هذه الحكايات قد طردت من الحاضر و المستقبل ، و سكنت في المتاحف مع التاريخ بسبب انتهاء صلاحيتها .
و ككل ظاهرة تلقى رواجا، يتسارع العمل على تقليدها . و مع التقليد ، تظهر حالات بعضها يتفوق على الأصل ، و يمتاز عليه .
بعض أصحاب البيوت العربية القديمة ، و بعد أن أغلقوها ردحا من الزمن ، و هجروها إلى بيوت أكثر حداثة و أقل جمالا، فكروا بتحويلها إلى أماكن تلبي حاجة الناس إلى استعادة زمن مضى ، فتحوها ، و رمموها بما يحافظ على طابعها الدمشقي القديم . و جعلوا منها مطاعم و مقاهي تقدم أجواء مشوقة مدهشة في حميميتها ، مع مأكولات دمشقية عريقة ، بعضها صار جزءا من ذاكرة قديمة ، و بعضها الآخر امتداد لها .
و حول بحرات الماء و نوا فيرها الدقيقة تصطف الأرجيلة ، ملكة المقاهي و المطاعم الدمشقية ، و تحفل الطاولات بأصناف طعام و حلويات نسيها كثير من الناس و عادت إلى الظهور بسحر ساحر ، فشكل تناولها بحد ذاته بهجة من نوع خاص .
و زيادة في الحفاوة ،و رغبة في خلق المزيد من المتعة ، زود بعض أصحاب المطاعم مجالس زبائنهم بفرق موسيقية و مطربين يغنون أغنيات التراث و القدود الحلبية ، و فرق " المولوية " و الدراويش ، يدورون على إيقاع الدفوف و تدور معهم تنانيرهم البيضاء شديدة الاتساع في حلقات و دوائر لا تنتهي ، يعقدون أيديهم على صدورهم تارة و يبسطونها إلى الأعلى تارة أخرى ، و يرفعون رؤوسا علتها طرابيش حمر طويلة متميزة إلى أسقف خشبية ملونة و مزخرفة ، تثبت عليها أعينهم في حين لا يعرف أحد السماء التي وصلتها الأفكار التي تحملها صيحاتهم المنغمة بنغمة رتيبة معروفة : مدد مدد … مدد مدد … يا رسول الله مدد ، يا حبيب الله مدد ، الله أكبر .
و تزدحم الأماكن ببشر من كل جنس و لون ، بعضهم من سكان دمشق ، و بعضهم من سياح عرب و أجانب ، جاءوا ليعيشوا في أجواء تذكرهم بألف ليلة و ليلة ترويها شهرزاد كل ليلة لشهريار مزواج ملول .
و يهطل الياسمين ، و تصدح أغنيات صمدت و قاومت مرور السنين ، و يتناغم صوت خرير الماء في النوافير مع كركرة الأراجيل التي تنشر في الهواء رائحة معسلها المكون من رحيق الزهر و عطر الفاكهة، و تفوح القهوة بأريجها المميز .
و يسعى الندل في حركة دائبة ، مسارعين إلى تلبية طلبات لا تنتهي .
و تزدهر سياحة وليدة ، نضجت فجأة و كأنها على موعد لا يمكنها أن تخلفه مع رواج كاسح بات بين الأصابع