ينتمي حوض واد كرت من الناحية الإدارية إلى إقليم الناظور الذي ينتمي بدوره إلى الجهة الشرقية التي تمتد على مساحة 82820 كلم2، أي ما يعادل 12% من مجموع مساحة التراب المغربي. ويقع جغرافيا ما بين خطي عرض 34 درجة و45 دقيقة و35 درجة و15 دقيقة شمال خط الاستواء وبين خطي طول 3 درجة و05 دقيقة و3 درجة و45 دقيقة غرب خط كرينيتش. يمتد واد كرت غرب إقليم الناظور، ويخترق منخفضا تكونه سهول الدريوش وميضار. وتشرف على هذا المنخفض العديد من المرتفعات الجبلية كجبل أمقران 800م وجبل محند أوفارس 1184م وجبل أبركان جنوبا، ثم كتلة تمسمان وجبال ايت توزين غربا ومرتفعات ايت سعيد شمالا وجبال تزطوطين من جهة الشرق، وبذلك تشكل هذه السلاسل الجبلية حدودا طبيعية لحوض واد كرت الذي تبلغ مساحته 2710 كلم2، ويعتبر خاتمة جبال الريف من الجهة الشمالية الشرقية .
1- نبذة عن السكان وتاريخ تعمير المنطقة
رغم قلة المصادر التي تشير إلى المنطقة، فإن معظم المؤرخين والدارسين يؤكدون على أن التعمير بحوض كرت يرجع إلى فترة ما قبل الميلاد (حوالي القرن 12 قبل الميلاد عندما أسس الفينيقيون مركز روسادير شمال شرق مصب واد كرت)، وقد مر بمراحل تاريخية متعددة تعاقبت خلالها على المنطقة أجناس مختلفة. كما أكد الباحثون على أن الأمازيغ هم أول من استقر بالمنطقة. وتعتبر قبيلة المطالسة من بين أهم القبائل الأمازيغية التي استوطنت صحراء كرت وهي حسب ابن خلدون "بطن من بطون مكناسة من بني ورصطيف شعوب البتر أبناء مادغيس الأبتر"]، إلى جانب قبائل أخرى مشهورة وهي آيت توزين وتفرسيت وآيت ولشك وآيت سعيد. كما قلنا فقد شكل العنصر الأمازيغي ولازال أهم العناصر البشرية وذلك على الرغم من كل التيارات التي عرفتها منطقتهم، حيث عمل الأمازيغ على امتصاص واحتواء كل السكان الذين توافدوا على بلادهم وذلك بالعمل على إدماجهم في مجتمعهم.
بعد دخول الإسلام إلى المنطقة التي نحن بصدد الحديث عنها أصبحت تعرف ببلاد نكور] خصوصا على عهد الدولة الصالحية نسبة إلى صالح بن منصور الحميري الذي كون إمارته بمرسى نكور واتخذ من تمسمان عاصمة له، وبسط نفوذه على المنطقة خلال نهاية الثلاثينات أو بداية الأربعينات من القرن الثاني الهجري[]. وخلال هذه الفترة ظهرت مدينة نكور فغدت حاضرة كبرى حيث تكاد تجمع المصادر على أن سعيد بن إدريس هو الذي "اختط مدينة نكور لأول ولايته ونزله"]، وذهب أحد المؤرخين المغاربة المتأخرين إلى اعتبارها أول مدينة بنيت بالمغرب، وقال في جملة دالة "فأول مدينة بنيت بالمغرب مدينة نكور"[].
على العموم فإن هذا المجال الجغرافي المحدود جدا قد عرف عملية استيطان قديمة وكانت حالة عدم الاستقرار السمة البارزة خلال فترات طويلة من تاريخه وذلك نظرا لموقعه الجغرافي الهام والجذاب الذي كان يجذب إليه الطامعين ويشوش على الأهالي، وبالتالي شكل منطقة للتنافس الاقتصادي والسياسي. وبطبيعة الحال لم يكن الصراع محصورا بين أهالي المنطقة فقط، بل امتد ليشمل هؤلاء ومعظم القبائل الغازية وبسبب هذا الصراع ظهرت الأسرة الصالحية التي دخلت بدورها في نزاعات بينها وبين المكناسيين. وقد شكلت المنطقة كذلك مجالا مناسبا للمرينيين لشن حملاتهم العسكرية ضد الموحدين، وخلال العهد العلوي ظهرت تمردات كثيرا ما تستدعي المخزن لإخمادها. ومن أهم الأحداث السياسية التي عرفتها المنطقة ثورة الجيلالي الزرهوني الذي حرض مجموعة من القبائل للخروج عن طاعة السلطان وضرب سلطة المخزن بإقليم كرت والمقاومة العنيفة التي قادها أبطال الريف أمثال محمد أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي (مولاي محند) ضد الاستعمار الاسبان]، وحتى يتمكن المستعمر من التحكم في المنطقة عمل على خلق عدة مراكز عسكرية كالدريوش وميضار وتفرسيت وأزلاف وكاسيطا والتي لم تظهر كمراكز حضرية إلا بعد هدوء المقاومة الريفية. كما عمل على إحداث محور طرقي في بداية الثلاثينات يخترق حوض كرت ويربط ما بين الناظور والحسيمة. وكان الهدف من كل هذا هو التحكم في المجال ومراقبة حركات السكان. وبذلك أحدث التدخل الاستعماري تحولات عميقة على جميع المستويات. فخلال المرحلة السابقة للاستعمار كانت البنيات الاجتماعية قائمة على أساس إنتاج جماعي يقوم على التضامن والوحدة بين أفراد الجماعة (التويزة محليا)، "ولم تعرف المنطقة ملاك أراضي كبار ولا فلاحين معدمين... ولابد للفقير أن يملك حظه من الأرض مهما قل... ومن أهم القيم الاجتماعية في الريف آنذاك: العمل، لم يكن في الريف شخص لا يشتغل، إلا إذا كان مقعدا أو عاجزا..."[]. ومباشرة بعد دخول الاستعمار عمل على ضرب وتفكيك هذه البنيات الاجتماعية والعمل على خلق اضطرابات داخل الجماعات وغزو الأسواق الداخلية التي أنشأها بالبضائع المستوردة، مما أدى إلى تخلي عدد كبير من الفلاحين عن ممارسة الزراعة، فارتفعت نسبة التمدن خصوصا بعد الاستقلال. واتجه السكان إلى احتراف مهنة التجارة بسبب نمو هذا القطاع من خلال الإقبال المتزايد على الأسواق الأسبوعية، وكذا مختلف فروع التجارة داخل المراكز الحضرية. وهكذا عرفت البوادي والقرى إفراغا سكانيا كبيرا، فاتجه السكان نحو المدن ومنهم من هاجر إلى أوربا خصوصا بعد الستينات فشكلت عائداتهم رساميل كبيرة تم استثمارها في تنشيط الحركة العمرانية والتجارية داخل المراكز التي عرفت نموا كبيرا مع منتصف الثمانينات من القرن الماضي.
2- التزايد السكاني
عرف حوض كرت نموا ديموغرافيا متزايدا، خصوصا بعد سنوات الستين إلى حدود الثمانينات (انظر الجدول رقم 1) وذلك على إثر التحسن الغذائي، وتزايد الاهتمام بالعالم القروي، إلا أن هذا النمو لم يكن متجانسا مجاليا بسبب الظروف الطبيعية والاجتماعية وكذلك بسبب اختلاف الأساليب الاقتصادية. وكيفما كان الحال فإن المنطقة ستحقق أعلى الكثافات السكانية بالجهة الشرقية إن لم نقل بالمغرب أسره –بلغت الكثافة بإقليم الناظور سنة 1997 حوالي 113.5 ن/كلم2 مما يجعل من هذا الإقليم أكثر الأقاليم المغربية كثافة وتعميرا. ويعزى هذا التطور الكبير إلى الدور الذي لعبه الاستعمار من حيث تحسين وسائل التطبيب ومن ثم تراجع نسبة الوفيات وارتفاع الولادات التي سيترتب عنهما تزايد عدد السكان في مقابل ركود النمو الاقتصادي وذلك بسبب ظروف الإنتاج الصعبة، لكن إنسان المنطقة استطاع أن يحافظ على وجوده بواسطة البحث عن مصادر عيش متعددة ومختلفة كالزراعة وتربية الماشية وممارسة نشاط الاقتصاد الموازي بين منطقة الحماية الفرنسية ومنطقة الحماية الإسبانية أثناء عهد الاستعمار وكذلك بين الريف والجزائر، وحاليا من مليلية ثم أخيرا بالاعتماد على مداخيل الهجرة نحو الخارج. وأهم ملاحظة استرعت انتباهنا فيما يخص الدينامية السكانية بالجهة هو تراجع نسبة السكان القرويين بشكل كبيرا جدا، مما أدى إلى ظهور آثار سلبية على الأنشطة الاقتصادية الريفية وخاصة النشاط الزراعي. وكذلك على الأنشطة الحضرية التي لن تقدر على استيعاب كل اليد العاملة الوافدة سيما وأن المنطقة تستقطب يدا عاملة من بعض المناطق الأخرى وهكذا تكون الهجرة قد ولدت الهجرة]. ويبقى أن نشير إلى أن عدد السكان قد تراجع ما بين سنة 1982 و1994 (جدول رقم1) ولا يمكن تفسير هذا التراجع إلا بانخفاض نسبة الولادات ليس فقط بالنسبة للمنطقة بل للمغرب ككل، وهذا التطور السلبي يعبر في حقيقة الأمر عن التغيير الذي طرأ على عقليات السكان بسبب انتشار الوعي الاجتماعي، أي تنظيم الأسرة بواسطة الحد من الإنجاب بالرغم من كل هذا، فمازالت الكثافة السكانية مرتفعة حيث بلغ عدد الدواوير التي يزيد سكانها عن 1000 نسمة بكل من دائرة الريف والدريوش أكثر من 43 دوارا سنة 1994[. وأخيرا نستنتج أن المنطقة تعاني من وجود عدد كبير من السكان الشيء الذي لا يتوافق مع إمكانياتها المحلية المحدودة زراعية كانت أم صناعية، وهذا ما يدفعنا إلى طرح أكثر من سؤال حول مصادر العيش التي يلتجئ إليها السكان لتأمين مداخيلهم.
جدول رقم1: تطور سكان دوائر حوض كرت بين 1960 و1994 (علال الزروالي، 2001)
3- أنواع التدخل البشري في المنطقة وأنماط الاستغلال: (نشاطات السكان)
أغلب سكان المنطقة وخاصة القرويين منهم يشتغلون في الفلاحة، فالمجال الريفي منظم زراعيا منذ القديم، ويشهد حاليا تطورات جوهرية في مناظره وهياكله. وتجدر الإشارة إلى التضارب الموجود بين الإطار الطبيعي القاسي بسبب الجفاف –حيث معدل الأمطار السنوي نادرا ما يتجاوز 300ملم- وكذا ثقل أثر الإنسان على المجال الريفي.فكيف ينعكس كل هذا على الأنشطة التي يقوم بها السكان داخل الحوض؟
إن الأنشطة الممارسة من طرف السكان متعددة ومتنوعة يتصدرها النشاط الفلاحي الذي يعتبر أقدم نشاط بهذا الحوض خاصة وأن عددا كبيرا من السكان في الأرياف هم فلاحون يتعاطون الزراعة وتربية الماشية. إلا أن اعتماد أساليب تقليدية في الزراعة وكذا عدم ملاءمة الظروف الطبيعية (الجفاف، عقم التربة، نقص في الموارد المائية) ينعكس سلبا على القطاع الفلاحي، الشيء الذي أدى بفلاحي المنطقة في كثير من الأحيان إلى اعتماد السقي مما نتج عنه تنوع في المنتوج الفلاحي من مزروعات تقليدية، كالحبوب والقطاني الخضراوات والكلأ، وكذا المزروعات الصناعية مثل نوار الشمس والقطن، التي تعتبر حديثة العهد بالمنطقة، ويعتمد السقي هنا على ضخ المياه من الآبار باستعمال المضخات الكهربائية والبترولية.
ومن الملاحظ أن غالبية الأراضي المسقية توجد بالقرب من واد كرت نظرا لقرب الفرشة المائية من السطح ، وكذا بالقرب من الطريق الرئيسية وذلك حتى تسهل عملية نقل المنتوجات نحو الأسواق الأسبوعية المنتشرة بالمنطقة. ويبين الجدول رقم2 المساحات المخصصة لكل نوع من أنواع الزراعات الممارسة بالمنطقة خاصة في الحيز التابع لنفوذ مركز الاستثمار الفلاحي بميضار.
جدول رقم2: المساحة المخصصة لكل نوع من أنواع المزروعات الممارسة بدائرة الريف (مركز الاستثمار الفلاحي بميضار)
بالإضافة إلى النشاط الفلاحي فإن تربية الماشية كانت وما تزال تلعب دورا مهما في نشاط السكان، فالطبيعة الجبلية للمنطقة خصوصا شمال وغرب وجنوب الحوض ظلت عائقا في وجه ممارسة الزراعة وهو ما دفع بالسكان إلى الاهتمام أكثر بتربية الماشية خاصة الأغنام والأبقار وبنسبة أقل الماعز.
خاتمة
خلاصة القول إن ممارسة الزراعة وتربية الماشية في تراجع مستمر بسبب عامل الهجرة الذي تعاني منه المنطقة سواء نحو الخارج أو من القرى نحو المدن (مندوبية تربية الماشية بميضار). وتجدر الإشارة إلى أن الهجرة نحو أوربا تعتبر المخرج الوحيد والأخير للأزمة التي يعاني منها شباب المنطقة بسبب التهميش الشامل من طرف الدولة، حيث أصبحت عادة من عادات السكان وذلك لتجذرها في نفوسهم، ثم لوقعها الكبير على تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وقد شكلت هذه الهجرة إحدى الوسائل الناجعة بالنسبة للمجتمع لمواجهة الندرة الاقتصادية والتزايد السكاني الكبير مما دفع بالكثير من الشباب إلى ركوب قوارب الموت أملا في تحقيق غد أفضل. لكن كل هذه الحلول والبدائل لم تستطع أن تلبي حاجيات ومتطلبات سكان المنطقة، الشيء الذي يفرض على الدولة إيجاد حلول حقيقية وملموسة تخرج الجهة من عزلتها.
1- نبذة عن السكان وتاريخ تعمير المنطقة
رغم قلة المصادر التي تشير إلى المنطقة، فإن معظم المؤرخين والدارسين يؤكدون على أن التعمير بحوض كرت يرجع إلى فترة ما قبل الميلاد (حوالي القرن 12 قبل الميلاد عندما أسس الفينيقيون مركز روسادير شمال شرق مصب واد كرت)، وقد مر بمراحل تاريخية متعددة تعاقبت خلالها على المنطقة أجناس مختلفة. كما أكد الباحثون على أن الأمازيغ هم أول من استقر بالمنطقة. وتعتبر قبيلة المطالسة من بين أهم القبائل الأمازيغية التي استوطنت صحراء كرت وهي حسب ابن خلدون "بطن من بطون مكناسة من بني ورصطيف شعوب البتر أبناء مادغيس الأبتر"]، إلى جانب قبائل أخرى مشهورة وهي آيت توزين وتفرسيت وآيت ولشك وآيت سعيد. كما قلنا فقد شكل العنصر الأمازيغي ولازال أهم العناصر البشرية وذلك على الرغم من كل التيارات التي عرفتها منطقتهم، حيث عمل الأمازيغ على امتصاص واحتواء كل السكان الذين توافدوا على بلادهم وذلك بالعمل على إدماجهم في مجتمعهم.
بعد دخول الإسلام إلى المنطقة التي نحن بصدد الحديث عنها أصبحت تعرف ببلاد نكور] خصوصا على عهد الدولة الصالحية نسبة إلى صالح بن منصور الحميري الذي كون إمارته بمرسى نكور واتخذ من تمسمان عاصمة له، وبسط نفوذه على المنطقة خلال نهاية الثلاثينات أو بداية الأربعينات من القرن الثاني الهجري[]. وخلال هذه الفترة ظهرت مدينة نكور فغدت حاضرة كبرى حيث تكاد تجمع المصادر على أن سعيد بن إدريس هو الذي "اختط مدينة نكور لأول ولايته ونزله"]، وذهب أحد المؤرخين المغاربة المتأخرين إلى اعتبارها أول مدينة بنيت بالمغرب، وقال في جملة دالة "فأول مدينة بنيت بالمغرب مدينة نكور"[].
على العموم فإن هذا المجال الجغرافي المحدود جدا قد عرف عملية استيطان قديمة وكانت حالة عدم الاستقرار السمة البارزة خلال فترات طويلة من تاريخه وذلك نظرا لموقعه الجغرافي الهام والجذاب الذي كان يجذب إليه الطامعين ويشوش على الأهالي، وبالتالي شكل منطقة للتنافس الاقتصادي والسياسي. وبطبيعة الحال لم يكن الصراع محصورا بين أهالي المنطقة فقط، بل امتد ليشمل هؤلاء ومعظم القبائل الغازية وبسبب هذا الصراع ظهرت الأسرة الصالحية التي دخلت بدورها في نزاعات بينها وبين المكناسيين. وقد شكلت المنطقة كذلك مجالا مناسبا للمرينيين لشن حملاتهم العسكرية ضد الموحدين، وخلال العهد العلوي ظهرت تمردات كثيرا ما تستدعي المخزن لإخمادها. ومن أهم الأحداث السياسية التي عرفتها المنطقة ثورة الجيلالي الزرهوني الذي حرض مجموعة من القبائل للخروج عن طاعة السلطان وضرب سلطة المخزن بإقليم كرت والمقاومة العنيفة التي قادها أبطال الريف أمثال محمد أمزيان ومحمد بن عبد الكريم الخطابي (مولاي محند) ضد الاستعمار الاسبان]، وحتى يتمكن المستعمر من التحكم في المنطقة عمل على خلق عدة مراكز عسكرية كالدريوش وميضار وتفرسيت وأزلاف وكاسيطا والتي لم تظهر كمراكز حضرية إلا بعد هدوء المقاومة الريفية. كما عمل على إحداث محور طرقي في بداية الثلاثينات يخترق حوض كرت ويربط ما بين الناظور والحسيمة. وكان الهدف من كل هذا هو التحكم في المجال ومراقبة حركات السكان. وبذلك أحدث التدخل الاستعماري تحولات عميقة على جميع المستويات. فخلال المرحلة السابقة للاستعمار كانت البنيات الاجتماعية قائمة على أساس إنتاج جماعي يقوم على التضامن والوحدة بين أفراد الجماعة (التويزة محليا)، "ولم تعرف المنطقة ملاك أراضي كبار ولا فلاحين معدمين... ولابد للفقير أن يملك حظه من الأرض مهما قل... ومن أهم القيم الاجتماعية في الريف آنذاك: العمل، لم يكن في الريف شخص لا يشتغل، إلا إذا كان مقعدا أو عاجزا..."[]. ومباشرة بعد دخول الاستعمار عمل على ضرب وتفكيك هذه البنيات الاجتماعية والعمل على خلق اضطرابات داخل الجماعات وغزو الأسواق الداخلية التي أنشأها بالبضائع المستوردة، مما أدى إلى تخلي عدد كبير من الفلاحين عن ممارسة الزراعة، فارتفعت نسبة التمدن خصوصا بعد الاستقلال. واتجه السكان إلى احتراف مهنة التجارة بسبب نمو هذا القطاع من خلال الإقبال المتزايد على الأسواق الأسبوعية، وكذا مختلف فروع التجارة داخل المراكز الحضرية. وهكذا عرفت البوادي والقرى إفراغا سكانيا كبيرا، فاتجه السكان نحو المدن ومنهم من هاجر إلى أوربا خصوصا بعد الستينات فشكلت عائداتهم رساميل كبيرة تم استثمارها في تنشيط الحركة العمرانية والتجارية داخل المراكز التي عرفت نموا كبيرا مع منتصف الثمانينات من القرن الماضي.
2- التزايد السكاني
عرف حوض كرت نموا ديموغرافيا متزايدا، خصوصا بعد سنوات الستين إلى حدود الثمانينات (انظر الجدول رقم 1) وذلك على إثر التحسن الغذائي، وتزايد الاهتمام بالعالم القروي، إلا أن هذا النمو لم يكن متجانسا مجاليا بسبب الظروف الطبيعية والاجتماعية وكذلك بسبب اختلاف الأساليب الاقتصادية. وكيفما كان الحال فإن المنطقة ستحقق أعلى الكثافات السكانية بالجهة الشرقية إن لم نقل بالمغرب أسره –بلغت الكثافة بإقليم الناظور سنة 1997 حوالي 113.5 ن/كلم2 مما يجعل من هذا الإقليم أكثر الأقاليم المغربية كثافة وتعميرا. ويعزى هذا التطور الكبير إلى الدور الذي لعبه الاستعمار من حيث تحسين وسائل التطبيب ومن ثم تراجع نسبة الوفيات وارتفاع الولادات التي سيترتب عنهما تزايد عدد السكان في مقابل ركود النمو الاقتصادي وذلك بسبب ظروف الإنتاج الصعبة، لكن إنسان المنطقة استطاع أن يحافظ على وجوده بواسطة البحث عن مصادر عيش متعددة ومختلفة كالزراعة وتربية الماشية وممارسة نشاط الاقتصاد الموازي بين منطقة الحماية الفرنسية ومنطقة الحماية الإسبانية أثناء عهد الاستعمار وكذلك بين الريف والجزائر، وحاليا من مليلية ثم أخيرا بالاعتماد على مداخيل الهجرة نحو الخارج. وأهم ملاحظة استرعت انتباهنا فيما يخص الدينامية السكانية بالجهة هو تراجع نسبة السكان القرويين بشكل كبيرا جدا، مما أدى إلى ظهور آثار سلبية على الأنشطة الاقتصادية الريفية وخاصة النشاط الزراعي. وكذلك على الأنشطة الحضرية التي لن تقدر على استيعاب كل اليد العاملة الوافدة سيما وأن المنطقة تستقطب يدا عاملة من بعض المناطق الأخرى وهكذا تكون الهجرة قد ولدت الهجرة]. ويبقى أن نشير إلى أن عدد السكان قد تراجع ما بين سنة 1982 و1994 (جدول رقم1) ولا يمكن تفسير هذا التراجع إلا بانخفاض نسبة الولادات ليس فقط بالنسبة للمنطقة بل للمغرب ككل، وهذا التطور السلبي يعبر في حقيقة الأمر عن التغيير الذي طرأ على عقليات السكان بسبب انتشار الوعي الاجتماعي، أي تنظيم الأسرة بواسطة الحد من الإنجاب بالرغم من كل هذا، فمازالت الكثافة السكانية مرتفعة حيث بلغ عدد الدواوير التي يزيد سكانها عن 1000 نسمة بكل من دائرة الريف والدريوش أكثر من 43 دوارا سنة 1994[. وأخيرا نستنتج أن المنطقة تعاني من وجود عدد كبير من السكان الشيء الذي لا يتوافق مع إمكانياتها المحلية المحدودة زراعية كانت أم صناعية، وهذا ما يدفعنا إلى طرح أكثر من سؤال حول مصادر العيش التي يلتجئ إليها السكان لتأمين مداخيلهم.
جدول رقم1: تطور سكان دوائر حوض كرت بين 1960 و1994 (علال الزروالي، 2001)
3- أنواع التدخل البشري في المنطقة وأنماط الاستغلال: (نشاطات السكان)
أغلب سكان المنطقة وخاصة القرويين منهم يشتغلون في الفلاحة، فالمجال الريفي منظم زراعيا منذ القديم، ويشهد حاليا تطورات جوهرية في مناظره وهياكله. وتجدر الإشارة إلى التضارب الموجود بين الإطار الطبيعي القاسي بسبب الجفاف –حيث معدل الأمطار السنوي نادرا ما يتجاوز 300ملم- وكذا ثقل أثر الإنسان على المجال الريفي.فكيف ينعكس كل هذا على الأنشطة التي يقوم بها السكان داخل الحوض؟
إن الأنشطة الممارسة من طرف السكان متعددة ومتنوعة يتصدرها النشاط الفلاحي الذي يعتبر أقدم نشاط بهذا الحوض خاصة وأن عددا كبيرا من السكان في الأرياف هم فلاحون يتعاطون الزراعة وتربية الماشية. إلا أن اعتماد أساليب تقليدية في الزراعة وكذا عدم ملاءمة الظروف الطبيعية (الجفاف، عقم التربة، نقص في الموارد المائية) ينعكس سلبا على القطاع الفلاحي، الشيء الذي أدى بفلاحي المنطقة في كثير من الأحيان إلى اعتماد السقي مما نتج عنه تنوع في المنتوج الفلاحي من مزروعات تقليدية، كالحبوب والقطاني الخضراوات والكلأ، وكذا المزروعات الصناعية مثل نوار الشمس والقطن، التي تعتبر حديثة العهد بالمنطقة، ويعتمد السقي هنا على ضخ المياه من الآبار باستعمال المضخات الكهربائية والبترولية.
ومن الملاحظ أن غالبية الأراضي المسقية توجد بالقرب من واد كرت نظرا لقرب الفرشة المائية من السطح ، وكذا بالقرب من الطريق الرئيسية وذلك حتى تسهل عملية نقل المنتوجات نحو الأسواق الأسبوعية المنتشرة بالمنطقة. ويبين الجدول رقم2 المساحات المخصصة لكل نوع من أنواع الزراعات الممارسة بالمنطقة خاصة في الحيز التابع لنفوذ مركز الاستثمار الفلاحي بميضار.
جدول رقم2: المساحة المخصصة لكل نوع من أنواع المزروعات الممارسة بدائرة الريف (مركز الاستثمار الفلاحي بميضار)
بالإضافة إلى النشاط الفلاحي فإن تربية الماشية كانت وما تزال تلعب دورا مهما في نشاط السكان، فالطبيعة الجبلية للمنطقة خصوصا شمال وغرب وجنوب الحوض ظلت عائقا في وجه ممارسة الزراعة وهو ما دفع بالسكان إلى الاهتمام أكثر بتربية الماشية خاصة الأغنام والأبقار وبنسبة أقل الماعز.
خاتمة
خلاصة القول إن ممارسة الزراعة وتربية الماشية في تراجع مستمر بسبب عامل الهجرة الذي تعاني منه المنطقة سواء نحو الخارج أو من القرى نحو المدن (مندوبية تربية الماشية بميضار). وتجدر الإشارة إلى أن الهجرة نحو أوربا تعتبر المخرج الوحيد والأخير للأزمة التي يعاني منها شباب المنطقة بسبب التهميش الشامل من طرف الدولة، حيث أصبحت عادة من عادات السكان وذلك لتجذرها في نفوسهم، ثم لوقعها الكبير على تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وقد شكلت هذه الهجرة إحدى الوسائل الناجعة بالنسبة للمجتمع لمواجهة الندرة الاقتصادية والتزايد السكاني الكبير مما دفع بالكثير من الشباب إلى ركوب قوارب الموت أملا في تحقيق غد أفضل. لكن كل هذه الحلول والبدائل لم تستطع أن تلبي حاجيات ومتطلبات سكان المنطقة، الشيء الذي يفرض على الدولة إيجاد حلول حقيقية وملموسة تخرج الجهة من عزلتها.