كان كل ما يحمله في جيبه مئة ليرة ... خرج من البيت صباحا قابضا عليها يخشى عليها ان تفلت او يتلفها عرق يديه دسها في جيبه بعد ان تأكد أنها لا تزال بخير , البارحة طنت الكلمة في اذنه وهو يعدوا مسرعا من امام ابو احمد ...
- والله في عالم ما بيستحوا ؟
كانت احلام اليوم سقفها المئة ليرة التي يحملها , صورة الكتاب التي شاهدها في الواجهة لا تفارقه ابدا ... هل يستغني عن طعام يومين ليجلب الكتاب ... ؟
المئة ليرة هي آخر ما تبقى لديه من مصروف الشهر ....
- لا تبعزق هون وهون ......
ضحك وهو يتذكر كلمات امه كان يجيبها :
- ليش ياحجة الف وخمس مية ليرة بالشهر بيتبعزقوا ؟
كانت" الحجة " تنظر إليه باستغراب كان المبلغ بالنسبة لأمه ثروة امه التي لم تخرج من حدود القرية منذ ستين عاما كانت تظن ان الدنيا ما زالت بيضة ورغيف ....
ترك درويش قريته الصغيرة القريبة من البحر والمنسية حتى من المختار .. مل الهواء المشبع برائحة السمك وقوارب الصيادين الزرقاء البالية ... ترك القرية ليتنفس عبق المدينة وهوائها المشبع برائحة البنزين والعرق والنساء والاسمنت , استأجر غرفة صغيرة في بيت ام عماد التي اتضح لاحقا أنها قوادة الحي , كانت النظرات تخترقه اختراقا كلما دخل وخرج ... يسمع همس الصبايا وضحكاتهم المكتومة كلما طرق الباب او سعل وهو يدخل .
كانت قصة الكتاب تشغله وصورة الغلاف لاتفارق خياله المتعب :
- انا والله اول مرة بشوف زبال مثقف ؟.؟
كانوا يتندرون عليه في الحي عندما يرونه يحمل كتابا او جريدة ما حتى ام عماد كانت تقف في باحة البيت وهي ترفع رأسها للأعلى لتناديه :
- ياريتك فالح بالـ...... متل ما فالح بالقراي ؟
لم يكن يثنيه أي شيء فهو في الشهر الأول من وجوده في المدينة صادق كل القطط والكلاب الليلية .. يستند على عربته الرمادية ممسكا جريدة او كتاب مرمي في القمامة لا يوقظه الا صراخ المراقب ابو سعيد على دراجته العجوز وهو يناديه , وعد امه ان المبلغ الاخير هو دين وسيرده عند اول راتب يستلمه ....
كل ما استدانه من امه التهم به الكتب والسجائر الوطنية والأطعمة الرخيصة ..
اليوم وبعد نزاع ليلي بين رغباته وحاجته قرر شراء الكتاب ... ومماحكة البائع قليلا على السعر ... ربما يرق لحاله .
درويش عندما يقرأ يغيب عن الوجود ينسى كل شيئ يصبح داخل كتاب يضيع بين الكلمات , لايرى إلا الكلمات كانت القراءة بالنسبة له كالمخدر تماما يغيب عن كل ما حوله ينسى رائحة اللحم المكوم في الأسفل ولا يسمع صرخات العشق او ضحكات البنات حتى شخير أم عماد الدائم النائمة في باحة البيت يضيع وسط سواد الحروف ورائحة الورق .
وصل المكتبة ... أحس بأن الشوارع ازدادت طولا وبأن خطواته ثقيلة على الأرض كان يريد الوصول بسرعة قبل ان يغير رأيه .
يمني نفسه برحلة جديدة داخل كتاب ... برحلة ربما تأخذه بعيدا عن قريته وأمه وشارب أبيه الأصفر , ربما لشاطئ أنظف ومراكب صيد جديدة وهواء نقي ...
- الكتاب ... الكتاب الذي على اليمين ...
خرج من المكتبة مشيرا بأصبعه من خلال الزجاج ... هز الرجل رأسه وهو يشير إليه ان يدخل , تناول الرجل نسخة من الكتاب ووضعها في كيس وناوله إياها ... دس درويش يده الغارقة بالعرق وسط جيبه , لم يحس إلا بالرطوبة الملتصقة بفخذه , امسك المئة ليرة المهترئة والمبتلة وناولها للرجل وخرج .... قرر ان يضع الكتاب تحت قميصه عندما يعود للبيت كي لا تتندر البنات عليه او يمسكه ابو احمد السمان بالجرم المشهود ..... شق الشوارع الاسفلتية السوداء بسرعة البرق كان يريد ان يصل لغرفته بسرعة , لم يستطع ان يمسك نفسه عن التفكير بالكتاب كان يريد ان يبدأ الرحلة وهو في الشارع ....
- أقرأ بعض الكلمات فقط .... او اتفقده قبل ان أصل ....
هكذا حدث نفسه بأنه فقط سيتصفح الكتاب قليلا او ربما يجد بعض الصفحات ملتصقة ببعضها ... مازال قريبا من المكتبة يستطيع ان يستبدله , اخرج الكيس من تحت القميص وبدأ بتصفح الكتاب , كأنه ولأول مرة يرى أحرف وكلمات عيناه تلتهمان الكلمات التهاما ضاع درويش بين الكلمات لم يستطع وهو يجول داخل الأحرف والنقط وعلامات الاستفهام ان يرى تلك السيارة الصفراء التي رفعته لأكثر من خمسة أمتار في الهواء كان يظن انه مازال في الحكاية التي بين يديه, ولم يدرك حتى الآن انه أصبح حكاية نقرأها نحن ونجتر كلماتها .