علي أنوزلا ـ بوبكر الجامعي
على إثر محاولة الولايات المتحدة توسيع مهمة البعثة الأممية في الصحراء لمراقبة احترام حقوق الإنسان، جاء رد فعل النظام المغربي ومؤيديه، منسجما مع نفسه وغير مفاجئ، وكما جرت العادة، لبست الهستيريا والبلطجة رداء الوطنية داخل البرلمان وعبر بعض وسائل الإعلام.
كان رد فعل النظام المغربي منطقيا مع نفسه لأنه أولا شعر بالغدر من طرف حليفه، أي الولايات المتحدة، الذي أسدى له المغرب بسخاء خدمات التعذيب خلال فترة ما يسمى الحرب على الإرهاب. إنه حليف قـبٍـل النظام المغربي أن يلوث من أجله شرف المغاربة حينما سمح أن تحتضن أرضه "نقطا سوداء" على شكل سجون سرية تولت فيها "اليد العاملة" الأمنية المغربية القيام بالأشغال القذرة، أي تعذيب البشر. وهو أيضا حليف أذل النظام المغربي من أجله نفسه أمام العالم عندما رفض التصديق على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، رغم أنه سبق ووقع عليها، وذلك رضوخا عند رغبة إدارة الرئيس جورج بوش.
ثم إنه رد فعل منطقي من زاوية نظر نظام يريد ربح الإشعاع الذي تستحقه البلدان الديمقراطية دون أن يدفع فاتورة التحول الديمقراطي. ولذلك فإن مشروع القرار الأميركي كان من شأنه أن يشكل شهادة الإقرار بهذه الخُدعة.
هذه القضية يحاول المغرب تحقيق هدفين: أن يكون عضوا معتبرا داخل المجتمع الدولي، ويؤكد سيادته على ما يسميه العالم "الصحراء الغربية". كما كان أمام المغرب خيار أن يسعى لهذا الهدف الأخير وحده وهو تحصين مغربية الصحراء. وكان بإمكانه رفض تدخل الأمم المتحدة ومواجهة كل إنكار لسيادته على أقاليمه الجنوبية، ولو بالقوة. كان هذا الاختيار سيقوده حتما للعزلة الدولية ليعيش في وضع شبيه بكوريا الشمالية مع ما يرافق ذلك من معاناة للسكان. من المفيد أن نذكر بهذه البديهيات لأن لهجة الخطاب المتداول تلمح وكأننا على استعداد لدفع أي ثمن مهما كان باهظا. حسنا، ولكن هل لدينا فكرة واقعية عن هذا الثمن؟ إن السلطات المغربية تدرك تمام الإدراك عواقب أي رفض للتدخل الدولي ولذلك فهي تحاول أن تحقـق الهدفين معا: الحسم في السيادة على الصحراء والاندماج الكامل في المجتمع الدولي.
هل تُحسِن السلطاتُ تدبير الملف لتحقيق هذين الهدفين؟ هناك الإخفاقات التكتيكية ولكن الأكثر خطرا هو الاضطراب الاستراتيجي.
لنتذكر قليلا الارتباك الذي رافق طرد أمينتو حيدر، ولنتذكر كارثة مخيم "إكديم إزيك" حيث تناوب حزب "الاستقلال" من جهة وحزب "لأصالة والمعاصرة"من جهة أخرى على أدوار إشعال النار وإطفائها، ولنتذكر أخيرا مهزلة رفض المغرب لكريستوفر روس المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، لنقف على حجم الأخطاء التكتيكية والتي تكشف منسوب الغباء القابع وراء عملية اتخاذ القرار، كل هذه الإخفاقات تشترك في كون تدبيرها أشرف عليه القصر إما بشكل مباشر أو غير مباشر عبر تسخير أعوانه كما حدث مع "إكديم إزيك". ولهذا السبب فإن التصريحات الأخيرة لمصطفى الباكوري الذي اقترح إنشاء لجنة وطنية برئاسة الملك لتدبير ملف الصحراء تحت ذريعة أن الحكومة قد فشلت، ما هي إلا نفاق مفضوح. إن بنكيران وحكومته بريئان من المسؤولية المباشرة عن تلك الإخفاقات وهذا لا يمنع من مؤاخذتهما على تكريس نظام مؤسساتي يضع الملكية فوق أية مساءلة، وبذلك فهما يلتزمان بسياساتها ويشجعانها على الاستمرار في ضلالاتها وبالتالي فهما متواطئان معها.
لقد هرول الديوان الملكي إلى إصدار بيان تحكمه نشوة الانتصار بعد التصويت على القرار الذي يمدد ولاية البعثة الأممية في الصحراء دون تكليفها بمراقبة احترام حقوق الإنسان، وكان الهدف الأول بطبيعة الحال أن يظهر القصر بمظهر الفاعل الوحيد الذي حقق هذا الانجاز، وكان الهدف الثاني المُضمر هو إخفاء الفشل الذريع الذي تشكله في حد ذاتها محاولة الولايات المتحدة تمرير الاقتراح. هذا الفشل الخطير يعكس التخبط الاستراتيجي الحقيقي.
إن الإدانات المتكررة الصادرة عن المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان، والتي يعززها تقرير خوان منديز، المقرر الخاص للأمم المتحدة عن التعذيب بعد زيارته للمغرب، خلصت إلى استمرار الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، ونسفت من الأصل تلك الخرافة التي تحكي أن النظام المغربي قد طوى صفحة انتهاك حقوق الإنسان. لقد حاول النظام المغربي التحايل وأحجم عن إرساء ديمقراطية حقيقة باستقطاب رموز اليسار والمجتمع المدني عبر عملية الإغراء ببريق المال وأبـَّهـة المناصب ورئاسة اللجان، متوهما أن ذلك يكفي ليقتنع العالم بالتقدم الباهر في مجال حقوق الإنسان، كما توهم أن إسداء خدمة التعذيب لأمريكا يجعله في مأمن من تقلبات مزاجها، وتوهم أن منح الاقتصاد المغربي للشركات الفرنسية لتحصل منه على أرباح هائلة، وكذلك تقديم "الريع" لبعض الأسر الصحراوية لتسمين أفرادها كفيلٌ لكي يشتري السلم ويطلق يده في الصحراء يفعل فيها وفي ساكنيها ما يشاء، وفي بقية أنحاء المغرب أيضا...
إذا كان مقتنعا بأن هذا هو السبيل الوحيد لانتزاع الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء، دون أي اعتبار أخلاقي، ربما. ولكن الواقع هو أنه لم يسلك سبيلا واحدا ووحيدا وإنما اختار أن يسلك أسوأ سبيل.
من يتذكر اليوم أنه خلال المظاهرات التي هزت مدينة العيون في سبتمبر 1999، لم يرفع أي من المعتصمين علم "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" ولا كانت هناك أية مطالب للانفصال عن المغرب. بعد خمسة سنوات أي في شهر مايو 2005 هزت نفس المدينة مظاهرات من نفس الحجم ولكن هذه المرة برزت المطالب الاستقلالية إلى العلن. وهذا يطرح السؤال: ما الذي حدث بين التاريخين؟ أو ما الذي لم يحدث؟
بعد أحداث عام 1999، أقال الملك إدريس البصري بدعوى أن الشرطة استعملت العنف غير المبرر ضد المتظاهرين، بعذ ذلك بقليل أعلن الملك في خطاب بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء أنه سيقوم بإنشاء مجلس ملكي استشاري لشؤون الصحراء (الكوركاس) لكي يتعامل مع مطالب الصحراويين وأن أعضاءه سوف تنتخبهم ساكنة الصحراء.
ماذا فعل النظام الملكي بعد الخطاب؟ لا شيء. لقد انتظر حتى اندلعت أحداث مايو 2005 ، فقام تحت ضغطها بإنشاء هذا (الكوركاس)، ولكن مع فارق كبير مقارنة مع وعود عام 1999: هذه المرة سوف يتم تعيين أعضائه من طرف الملك، يُضاف إليه فارق أكبر منه، وهو أنه خلال الفترة الممتدة بين الحدثين اختفت صورة الملك الشاب الوديع الذي عقد عليه الناس آمالهم لإنجاح تحول ديمقراطي تلاشت وحلت محلها خيبة الأمل واليقين التام بأن النظام الملكي متعطش للاستفراد بالسلطة وممارسة الاستبداد.
من مركز الاعتقال والتعذيب بمدينة تمارة مرورا بالقمع البوليسي والقضاء الخاضع للتعليمات إلى التضييق على الصحافة المستقلة واستمرار السعي إلى مراكمة المال بشراهة عبر الجمع بين الحكم وممارسة التجارة، واستفحال ظواهر الفساد المتعددة، كلها عوامل دفعت جيلا جديدا من الشباب الصحراوي إلى فقدان الثقة، إنه جيل أمينتو حيدر ومحمد المتوكل وعلي سالم التامك. هذا الجيل كان من الممكن استقطابه إلى مشروع مغرب ديمقراطي، وكانت هذه فرصة المغرب لكنه أضاعها لأنه فشل في إقناع هؤلاء الصحراويين الشباب أن تطلعاتهم إلى الحرية والكرامة ممكنة في إطار بلد موحد وديمقراطي، ولكن هيهات هيهات.
لقد كان مشروع الحكم الذاتي ذا معنى لو توفرت هذه الظروف، حيث سيجد هذا الجيل أمامه خيارين اثنين: إما مغربٌ يبني ذاته ويساهمون في بنائه لأن لهم الضمانات الديمقراطية، وإما مغامرة استقلالية مجهولة العواقب يجدون نفسهم ضمنها في صراع مع نخب "البوليساريو"، التي لا زال على الأقل جزء منها رهينة لفكر حقبة الحرب الباردة وتحت تأثير النظام الجزائري.
إن سياسة شراء الضمائر والذمم لم تستهدف النخب الصحراوية فقط. ذلك أن الامتيازات التي يتمتع بها غالبية الصحراويين من حيث الخدمات الاجتماعية والأولوية في الحصول على الوظائف العمومية، والاستثمارات العامة والإعفاءات الضريبية، كلها عوامل أججت غضب المحرومين في "الشمال". بعد أحداث "إكديم إيزيك" برز هذا الاستياء بقوة، وتسرب للفضاء العام نوع من العداء يشبه العنصرية العلنية إزاء الصحراويين حيث انتشر الحديث عنهم كفئة مدللة من طرف السلطة وناكرة للجميل ولا تتردد في التعامل بالابتزاز مقابل الولاء للوطن. وهكذا فإن شراء الولاءات بالمال فكرة خبيثة أنتجت عكس ما كان يُنتظر منها.
في هذا السياق العام، يتحمل عبد الإله بنكيران وكل النخب السياسية التي اختارت مثله ومثل حزبه القبول باستمرار الاستبداد مسؤولية تاريخية.
إن عدم توسيع مهام "المينورسو" لتشمل مراقبة احترام حقوق الإنسان لم يغير شيئا وليس نصرا مبينا. بهذه المبادرة الأمريكية التي تضاف إلى تقرير خوان منديز والعديد من المؤاخذات الدولية، أبلغت الولايات المتحدة المغربَ أن القمع الذي تمارسه سلطاته يمكن أن يصبح مرتفع التكلفة، وفي نفس الوقت أصبح التحرك ونشاط المطالبين بالاستقلال منخفض التكلفة. ما هي النتيجة؟ في اليوم الموالي للتصويت داخل مجلس الأمن، خرج المطالبون باستقلال الصحراء يتظاهرون وقد تخلصوا من الخوف، وهم يواجهون بجرأة الهراوات التي أصبح استعمالها باهظا للغاية بالنسبة للنظام المغربي.
لو سلك المغرب سبيل البناء الديمقراطي لكانت مساهمة الشباب الصحراوي، الذي رآى النور بعد المسيرة الخضراء وتربى في مدارس مغربية، في هذا البناء أحسن ورقة بين يدي الحُكم في المغرب. أما وقد اختار النظام التشبث بالاستبداد فكأنه سعى طواعية لكي يصبح هذا الجيل عائقا يُضعف موقف المغرب.
على أرض الواقع، يجب السماح لهؤلاء الشباب التعبير بحرية حتى لو تعلق الأمر بمطالبتهم بالاستقلال. كما يجب السماح للفاعلين ذوي المصداقية من المجتمع المدني مضاعفة اتصالاتهم وربط علاقات مع نظرائهم في الصحراء. كما يجب اجتثاث سرطان "الافتراس الاقتصادي". إن مزارع الأعيان التي تستنزف المياه الجوفية في الداخلة وغيرها هي بمثابة جريمة بيئية وضد الوحدة الترابية. كفى من رخص استغلال مقالع الرمال الممنوحة لرجالات النظام. إن وضع حد لمثل هذه الممارسات كفيل بأن يبعث رسالة قوية تمنح مصداقية لخطاب الحكامة.
لكن ذلك لن يتحقق إلا بشرط تحول ديمقراطي حقيقي يشمل كل مؤسسات البلاد. لقد أخلفنا مواعيد تاريخية عام 1999 ثم عام 2011، والإصرار على نفس النهج يؤدي حتما إلى التفريط في الصحراء. وحدها دمقرطة مؤسسات البلد كفيلة بأن تمنحنا من جديد الفرصة لانتزاع الاعتراف الدولي بسيادة المغرب الديمقراطي على صحرائه وتحصين وحدته الترابية وتعددية مجتمعه.
لقد راهن المغرب طيلة تاريخ القضية على الوقت كعامل لإنهاك قوى الخصم أو الخصوم، لكن يبدو أن عامل الزمن تحول إلى "حرب استنزاف" بسبب "تراكم" الأخطاء التي لم تؤدِّ المراهنة على الوقت إلى محوها ونسيانها وإنما إلى مضاعفتها لدرجة أصبح معها عامل الزمن مكلفا وليس مخلصا.
- المراجعة وتدقيق النص أحمد ابن الصديق
عن موقع:لكــــم.
على إثر محاولة الولايات المتحدة توسيع مهمة البعثة الأممية في الصحراء لمراقبة احترام حقوق الإنسان، جاء رد فعل النظام المغربي ومؤيديه، منسجما مع نفسه وغير مفاجئ، وكما جرت العادة، لبست الهستيريا والبلطجة رداء الوطنية داخل البرلمان وعبر بعض وسائل الإعلام.
كان رد فعل النظام المغربي منطقيا مع نفسه لأنه أولا شعر بالغدر من طرف حليفه، أي الولايات المتحدة، الذي أسدى له المغرب بسخاء خدمات التعذيب خلال فترة ما يسمى الحرب على الإرهاب. إنه حليف قـبٍـل النظام المغربي أن يلوث من أجله شرف المغاربة حينما سمح أن تحتضن أرضه "نقطا سوداء" على شكل سجون سرية تولت فيها "اليد العاملة" الأمنية المغربية القيام بالأشغال القذرة، أي تعذيب البشر. وهو أيضا حليف أذل النظام المغربي من أجله نفسه أمام العالم عندما رفض التصديق على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية، رغم أنه سبق ووقع عليها، وذلك رضوخا عند رغبة إدارة الرئيس جورج بوش.
ثم إنه رد فعل منطقي من زاوية نظر نظام يريد ربح الإشعاع الذي تستحقه البلدان الديمقراطية دون أن يدفع فاتورة التحول الديمقراطي. ولذلك فإن مشروع القرار الأميركي كان من شأنه أن يشكل شهادة الإقرار بهذه الخُدعة.
هذه القضية يحاول المغرب تحقيق هدفين: أن يكون عضوا معتبرا داخل المجتمع الدولي، ويؤكد سيادته على ما يسميه العالم "الصحراء الغربية". كما كان أمام المغرب خيار أن يسعى لهذا الهدف الأخير وحده وهو تحصين مغربية الصحراء. وكان بإمكانه رفض تدخل الأمم المتحدة ومواجهة كل إنكار لسيادته على أقاليمه الجنوبية، ولو بالقوة. كان هذا الاختيار سيقوده حتما للعزلة الدولية ليعيش في وضع شبيه بكوريا الشمالية مع ما يرافق ذلك من معاناة للسكان. من المفيد أن نذكر بهذه البديهيات لأن لهجة الخطاب المتداول تلمح وكأننا على استعداد لدفع أي ثمن مهما كان باهظا. حسنا، ولكن هل لدينا فكرة واقعية عن هذا الثمن؟ إن السلطات المغربية تدرك تمام الإدراك عواقب أي رفض للتدخل الدولي ولذلك فهي تحاول أن تحقـق الهدفين معا: الحسم في السيادة على الصحراء والاندماج الكامل في المجتمع الدولي.
هل تُحسِن السلطاتُ تدبير الملف لتحقيق هذين الهدفين؟ هناك الإخفاقات التكتيكية ولكن الأكثر خطرا هو الاضطراب الاستراتيجي.
لنتذكر قليلا الارتباك الذي رافق طرد أمينتو حيدر، ولنتذكر كارثة مخيم "إكديم إزيك" حيث تناوب حزب "الاستقلال" من جهة وحزب "لأصالة والمعاصرة"من جهة أخرى على أدوار إشعال النار وإطفائها، ولنتذكر أخيرا مهزلة رفض المغرب لكريستوفر روس المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، لنقف على حجم الأخطاء التكتيكية والتي تكشف منسوب الغباء القابع وراء عملية اتخاذ القرار، كل هذه الإخفاقات تشترك في كون تدبيرها أشرف عليه القصر إما بشكل مباشر أو غير مباشر عبر تسخير أعوانه كما حدث مع "إكديم إزيك". ولهذا السبب فإن التصريحات الأخيرة لمصطفى الباكوري الذي اقترح إنشاء لجنة وطنية برئاسة الملك لتدبير ملف الصحراء تحت ذريعة أن الحكومة قد فشلت، ما هي إلا نفاق مفضوح. إن بنكيران وحكومته بريئان من المسؤولية المباشرة عن تلك الإخفاقات وهذا لا يمنع من مؤاخذتهما على تكريس نظام مؤسساتي يضع الملكية فوق أية مساءلة، وبذلك فهما يلتزمان بسياساتها ويشجعانها على الاستمرار في ضلالاتها وبالتالي فهما متواطئان معها.
لقد هرول الديوان الملكي إلى إصدار بيان تحكمه نشوة الانتصار بعد التصويت على القرار الذي يمدد ولاية البعثة الأممية في الصحراء دون تكليفها بمراقبة احترام حقوق الإنسان، وكان الهدف الأول بطبيعة الحال أن يظهر القصر بمظهر الفاعل الوحيد الذي حقق هذا الانجاز، وكان الهدف الثاني المُضمر هو إخفاء الفشل الذريع الذي تشكله في حد ذاتها محاولة الولايات المتحدة تمرير الاقتراح. هذا الفشل الخطير يعكس التخبط الاستراتيجي الحقيقي.
إن الإدانات المتكررة الصادرة عن المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان، والتي يعززها تقرير خوان منديز، المقرر الخاص للأمم المتحدة عن التعذيب بعد زيارته للمغرب، خلصت إلى استمرار الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان، ونسفت من الأصل تلك الخرافة التي تحكي أن النظام المغربي قد طوى صفحة انتهاك حقوق الإنسان. لقد حاول النظام المغربي التحايل وأحجم عن إرساء ديمقراطية حقيقة باستقطاب رموز اليسار والمجتمع المدني عبر عملية الإغراء ببريق المال وأبـَّهـة المناصب ورئاسة اللجان، متوهما أن ذلك يكفي ليقتنع العالم بالتقدم الباهر في مجال حقوق الإنسان، كما توهم أن إسداء خدمة التعذيب لأمريكا يجعله في مأمن من تقلبات مزاجها، وتوهم أن منح الاقتصاد المغربي للشركات الفرنسية لتحصل منه على أرباح هائلة، وكذلك تقديم "الريع" لبعض الأسر الصحراوية لتسمين أفرادها كفيلٌ لكي يشتري السلم ويطلق يده في الصحراء يفعل فيها وفي ساكنيها ما يشاء، وفي بقية أنحاء المغرب أيضا...
إذا كان مقتنعا بأن هذا هو السبيل الوحيد لانتزاع الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء، دون أي اعتبار أخلاقي، ربما. ولكن الواقع هو أنه لم يسلك سبيلا واحدا ووحيدا وإنما اختار أن يسلك أسوأ سبيل.
من يتذكر اليوم أنه خلال المظاهرات التي هزت مدينة العيون في سبتمبر 1999، لم يرفع أي من المعتصمين علم "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية" ولا كانت هناك أية مطالب للانفصال عن المغرب. بعد خمسة سنوات أي في شهر مايو 2005 هزت نفس المدينة مظاهرات من نفس الحجم ولكن هذه المرة برزت المطالب الاستقلالية إلى العلن. وهذا يطرح السؤال: ما الذي حدث بين التاريخين؟ أو ما الذي لم يحدث؟
بعد أحداث عام 1999، أقال الملك إدريس البصري بدعوى أن الشرطة استعملت العنف غير المبرر ضد المتظاهرين، بعذ ذلك بقليل أعلن الملك في خطاب بمناسبة ذكرى المسيرة الخضراء أنه سيقوم بإنشاء مجلس ملكي استشاري لشؤون الصحراء (الكوركاس) لكي يتعامل مع مطالب الصحراويين وأن أعضاءه سوف تنتخبهم ساكنة الصحراء.
ماذا فعل النظام الملكي بعد الخطاب؟ لا شيء. لقد انتظر حتى اندلعت أحداث مايو 2005 ، فقام تحت ضغطها بإنشاء هذا (الكوركاس)، ولكن مع فارق كبير مقارنة مع وعود عام 1999: هذه المرة سوف يتم تعيين أعضائه من طرف الملك، يُضاف إليه فارق أكبر منه، وهو أنه خلال الفترة الممتدة بين الحدثين اختفت صورة الملك الشاب الوديع الذي عقد عليه الناس آمالهم لإنجاح تحول ديمقراطي تلاشت وحلت محلها خيبة الأمل واليقين التام بأن النظام الملكي متعطش للاستفراد بالسلطة وممارسة الاستبداد.
من مركز الاعتقال والتعذيب بمدينة تمارة مرورا بالقمع البوليسي والقضاء الخاضع للتعليمات إلى التضييق على الصحافة المستقلة واستمرار السعي إلى مراكمة المال بشراهة عبر الجمع بين الحكم وممارسة التجارة، واستفحال ظواهر الفساد المتعددة، كلها عوامل دفعت جيلا جديدا من الشباب الصحراوي إلى فقدان الثقة، إنه جيل أمينتو حيدر ومحمد المتوكل وعلي سالم التامك. هذا الجيل كان من الممكن استقطابه إلى مشروع مغرب ديمقراطي، وكانت هذه فرصة المغرب لكنه أضاعها لأنه فشل في إقناع هؤلاء الصحراويين الشباب أن تطلعاتهم إلى الحرية والكرامة ممكنة في إطار بلد موحد وديمقراطي، ولكن هيهات هيهات.
لقد كان مشروع الحكم الذاتي ذا معنى لو توفرت هذه الظروف، حيث سيجد هذا الجيل أمامه خيارين اثنين: إما مغربٌ يبني ذاته ويساهمون في بنائه لأن لهم الضمانات الديمقراطية، وإما مغامرة استقلالية مجهولة العواقب يجدون نفسهم ضمنها في صراع مع نخب "البوليساريو"، التي لا زال على الأقل جزء منها رهينة لفكر حقبة الحرب الباردة وتحت تأثير النظام الجزائري.
إن سياسة شراء الضمائر والذمم لم تستهدف النخب الصحراوية فقط. ذلك أن الامتيازات التي يتمتع بها غالبية الصحراويين من حيث الخدمات الاجتماعية والأولوية في الحصول على الوظائف العمومية، والاستثمارات العامة والإعفاءات الضريبية، كلها عوامل أججت غضب المحرومين في "الشمال". بعد أحداث "إكديم إيزيك" برز هذا الاستياء بقوة، وتسرب للفضاء العام نوع من العداء يشبه العنصرية العلنية إزاء الصحراويين حيث انتشر الحديث عنهم كفئة مدللة من طرف السلطة وناكرة للجميل ولا تتردد في التعامل بالابتزاز مقابل الولاء للوطن. وهكذا فإن شراء الولاءات بالمال فكرة خبيثة أنتجت عكس ما كان يُنتظر منها.
في هذا السياق العام، يتحمل عبد الإله بنكيران وكل النخب السياسية التي اختارت مثله ومثل حزبه القبول باستمرار الاستبداد مسؤولية تاريخية.
إن عدم توسيع مهام "المينورسو" لتشمل مراقبة احترام حقوق الإنسان لم يغير شيئا وليس نصرا مبينا. بهذه المبادرة الأمريكية التي تضاف إلى تقرير خوان منديز والعديد من المؤاخذات الدولية، أبلغت الولايات المتحدة المغربَ أن القمع الذي تمارسه سلطاته يمكن أن يصبح مرتفع التكلفة، وفي نفس الوقت أصبح التحرك ونشاط المطالبين بالاستقلال منخفض التكلفة. ما هي النتيجة؟ في اليوم الموالي للتصويت داخل مجلس الأمن، خرج المطالبون باستقلال الصحراء يتظاهرون وقد تخلصوا من الخوف، وهم يواجهون بجرأة الهراوات التي أصبح استعمالها باهظا للغاية بالنسبة للنظام المغربي.
لو سلك المغرب سبيل البناء الديمقراطي لكانت مساهمة الشباب الصحراوي، الذي رآى النور بعد المسيرة الخضراء وتربى في مدارس مغربية، في هذا البناء أحسن ورقة بين يدي الحُكم في المغرب. أما وقد اختار النظام التشبث بالاستبداد فكأنه سعى طواعية لكي يصبح هذا الجيل عائقا يُضعف موقف المغرب.
على أرض الواقع، يجب السماح لهؤلاء الشباب التعبير بحرية حتى لو تعلق الأمر بمطالبتهم بالاستقلال. كما يجب السماح للفاعلين ذوي المصداقية من المجتمع المدني مضاعفة اتصالاتهم وربط علاقات مع نظرائهم في الصحراء. كما يجب اجتثاث سرطان "الافتراس الاقتصادي". إن مزارع الأعيان التي تستنزف المياه الجوفية في الداخلة وغيرها هي بمثابة جريمة بيئية وضد الوحدة الترابية. كفى من رخص استغلال مقالع الرمال الممنوحة لرجالات النظام. إن وضع حد لمثل هذه الممارسات كفيل بأن يبعث رسالة قوية تمنح مصداقية لخطاب الحكامة.
لكن ذلك لن يتحقق إلا بشرط تحول ديمقراطي حقيقي يشمل كل مؤسسات البلاد. لقد أخلفنا مواعيد تاريخية عام 1999 ثم عام 2011، والإصرار على نفس النهج يؤدي حتما إلى التفريط في الصحراء. وحدها دمقرطة مؤسسات البلد كفيلة بأن تمنحنا من جديد الفرصة لانتزاع الاعتراف الدولي بسيادة المغرب الديمقراطي على صحرائه وتحصين وحدته الترابية وتعددية مجتمعه.
لقد راهن المغرب طيلة تاريخ القضية على الوقت كعامل لإنهاك قوى الخصم أو الخصوم، لكن يبدو أن عامل الزمن تحول إلى "حرب استنزاف" بسبب "تراكم" الأخطاء التي لم تؤدِّ المراهنة على الوقت إلى محوها ونسيانها وإنما إلى مضاعفتها لدرجة أصبح معها عامل الزمن مكلفا وليس مخلصا.
- المراجعة وتدقيق النص أحمد ابن الصديق
عن موقع:لكــــم.