في تلك الفترة كانت الحياة لاتزال تتّسم بالبساطة في الريف.. كانت منظمّة، مرتّبة المفاهيم، كان الريف أو البادية يعني الهدوء والخلوة والحياة البسيطة، وكانت صناعة الحلويات من مظاهر المدن وسكانها، لم يكن من المستحب أن ينخرط أهل البادية في تقاليد غير تقاليدهم، فقد كانت أطباق العيد والحلويات التقليدية البسيطة أكثر ما يزيّن موائد الناس، لذلك كان عمي يحرص على ألا تفوّت عليه جدّتي هذا المظهر الذي افتقده في مدينة بحجم وهران، وقد كانت مهنته في محطة القطارات بعيدا عن العائلة الكبيرة في ريف تلمسان وباديتها ترسّخ فيه الرغبة في أن يمكث أطول فترة ممكنة بجانب جدي ووالدي رحمهما الله.
لم تكن رؤية عمي عشية آخر يوم من أيام رمضان بالمهمة الصعبة، كما أن قدومه كان يعتبر بمثابة المقياس الأقرب لأن يكون عيد الفطر «غدا» وليس «بعد غد» ومادامت إدارة القطارات منحته إجازة العيد فهذا يعني أن العيد غدا.. هكذا كان يفكر والدي وجدي وكل أفراد العائلة.
كنت لا أزال أحمل ذكريات آخر عيد عندما حمل لي عمي هدية جميلة لست أذكر لونها ولا حجمها لكنها كانت ملابس ابتهج لها الجميع، لكن ليست ملابس العيد ما يعلق بذاكرتي، بل منظر عمي وهو يتّب على رأسي ثم ينزل إلى أسفل كي ينظر إلى وجهي جيدا ثم يسألني: كم تريد؟
أبتسم.. يعانقني.. والمقابل كان دينارا واحدا.. عمي أشبه بالجندي المنضبط، يحرص دوما على أن يظل حذاؤه لامعا، وأن تخلو ملابسه من أي قش قد يعلق بها، كما أن المدينة لم تغيّر من طباعه حيث «الجلابة» الجزائرية التقليدية تلازمه، كان شعاره ولايزال أن تعيش في الريف ليس معناه أن تكون أشعث أغبر..
في جلسات السمر لتلك الأيام القليلة التي يقضيها رفقة والدي وجدي، كان عمي يحرص على أن يعود إلى الماضي فقد كان مولعا بفقه المقاربات والمقاربات، فقد علمته مشاركته في جيش التحرير الوطني منذ أواخر 1957 إلى غاية الاستقلال الصرامة في كل شيء.. عندما كانت جدتي تعطيه كوب الحليب الطازج كان يمسكه ثم يبسمل قبل أن يشرع في طلب الرضا من جدتي التي كانت حريصة هي الأخرى على أن تعدّ له أشهى الأطباق التي أعدتها في غيابه.
كان عمي ناقما على ما طرأ على الحياة من تغيير.. فعلا الدنيا تغيرت.. كما أن معادني الناس تغيّرت هي الأخرى.. تماما مثلما تغيرت طباع الفرد والجماعة في مجتمعنا الحالي، في الماضي كنا نسرق اللحظات الجميلة لنستمتع بها وكأنها الحياة كلها، أما اليوم فإن الدنيا تغيرت، ليس هنالك من ينتظر عمه بشغف يضاهي شغف الكبار في رؤية هلال العيد.
كانت بنية عمي الظاهرة وقامته الطويلة و«الجلابة» الجزائرية الأصيلة أهم المعالم التي أستند إليها في تأكيد هويته.. نعم إنه عمي.. ها هو قادم، ربما كان يتمنى ألا أسابق أي شخص آخر لاعتراضه وهو قادم حتى لا أتعثر في طريقي إليه.
كان يحملني ويلف ذراعه من حولي، لم يكن يجرؤ أي أحد على أن ينهرني لأنني أرغمت عمي على حملي «الثقيل».. اليوم وبرغم المسافات القريبة بين بعضنا البعض لا يوجد أي تقارب في المشاعر بين الأهل والعائلات «الواحدة».. الدنيا تغيرت مع الأسف.. ولأنها تغيرت فقد اعتكف عمي في منزله الكبير بأعالي مدينتنا بعدما صدمته التجارب المريرة والكثيرة فأجبرته على الانطواء بعيدا عن الناس.. سأزوره في هذا العيد.. سأنتقل إليه كما كان ينتقل إليها قبل عقود من اليوم لعلي أثبت له أن الكثير من الأشياء الجميلة التي كان يحرص عليها قديما لاتزال قائمة اليوم برغم ما تغير من ملامح الدنيا.
عبد السلام بارودي ـ الجزائر الشقيقة.
لم تكن رؤية عمي عشية آخر يوم من أيام رمضان بالمهمة الصعبة، كما أن قدومه كان يعتبر بمثابة المقياس الأقرب لأن يكون عيد الفطر «غدا» وليس «بعد غد» ومادامت إدارة القطارات منحته إجازة العيد فهذا يعني أن العيد غدا.. هكذا كان يفكر والدي وجدي وكل أفراد العائلة.
كنت لا أزال أحمل ذكريات آخر عيد عندما حمل لي عمي هدية جميلة لست أذكر لونها ولا حجمها لكنها كانت ملابس ابتهج لها الجميع، لكن ليست ملابس العيد ما يعلق بذاكرتي، بل منظر عمي وهو يتّب على رأسي ثم ينزل إلى أسفل كي ينظر إلى وجهي جيدا ثم يسألني: كم تريد؟
أبتسم.. يعانقني.. والمقابل كان دينارا واحدا.. عمي أشبه بالجندي المنضبط، يحرص دوما على أن يظل حذاؤه لامعا، وأن تخلو ملابسه من أي قش قد يعلق بها، كما أن المدينة لم تغيّر من طباعه حيث «الجلابة» الجزائرية التقليدية تلازمه، كان شعاره ولايزال أن تعيش في الريف ليس معناه أن تكون أشعث أغبر..
في جلسات السمر لتلك الأيام القليلة التي يقضيها رفقة والدي وجدي، كان عمي يحرص على أن يعود إلى الماضي فقد كان مولعا بفقه المقاربات والمقاربات، فقد علمته مشاركته في جيش التحرير الوطني منذ أواخر 1957 إلى غاية الاستقلال الصرامة في كل شيء.. عندما كانت جدتي تعطيه كوب الحليب الطازج كان يمسكه ثم يبسمل قبل أن يشرع في طلب الرضا من جدتي التي كانت حريصة هي الأخرى على أن تعدّ له أشهى الأطباق التي أعدتها في غيابه.
كان عمي ناقما على ما طرأ على الحياة من تغيير.. فعلا الدنيا تغيرت.. كما أن معادني الناس تغيّرت هي الأخرى.. تماما مثلما تغيرت طباع الفرد والجماعة في مجتمعنا الحالي، في الماضي كنا نسرق اللحظات الجميلة لنستمتع بها وكأنها الحياة كلها، أما اليوم فإن الدنيا تغيرت، ليس هنالك من ينتظر عمه بشغف يضاهي شغف الكبار في رؤية هلال العيد.
كانت بنية عمي الظاهرة وقامته الطويلة و«الجلابة» الجزائرية الأصيلة أهم المعالم التي أستند إليها في تأكيد هويته.. نعم إنه عمي.. ها هو قادم، ربما كان يتمنى ألا أسابق أي شخص آخر لاعتراضه وهو قادم حتى لا أتعثر في طريقي إليه.
كان يحملني ويلف ذراعه من حولي، لم يكن يجرؤ أي أحد على أن ينهرني لأنني أرغمت عمي على حملي «الثقيل».. اليوم وبرغم المسافات القريبة بين بعضنا البعض لا يوجد أي تقارب في المشاعر بين الأهل والعائلات «الواحدة».. الدنيا تغيرت مع الأسف.. ولأنها تغيرت فقد اعتكف عمي في منزله الكبير بأعالي مدينتنا بعدما صدمته التجارب المريرة والكثيرة فأجبرته على الانطواء بعيدا عن الناس.. سأزوره في هذا العيد.. سأنتقل إليه كما كان ينتقل إليها قبل عقود من اليوم لعلي أثبت له أن الكثير من الأشياء الجميلة التي كان يحرص عليها قديما لاتزال قائمة اليوم برغم ما تغير من ملامح الدنيا.
عبد السلام بارودي ـ الجزائر الشقيقة.