قبل أيام، كان ثمة حفل زفاف على بعد أربع أو خمس كيلومترات عن محل سكناي،
لكنني نمت بعد أن نام آخر مدعو، ليس لأنني العريس، بل لأني لم أستطع النوم
إلا بعد أن أقفل المغني فاه، لأنه كان يبدو لي وكأنه يصرخ في الغرفة
المجاورة. مغنو الأعراس عادة ما يفضلون البداية بالأغاني الكلاسيكية،
فيغنـّون لمحمد عبد الوهاب في العاشرة ليلا، ولفريد الأطرش في الحادية
عشرة، ثم لعبد الحليم في منتصف الليل، ومع مطلع الفجر يكونون قد دخلوا في
جدْبة «زيد سرْبي أمول البار» و«الفيزا والباسبور»، ومع مطلع الصبح يطلق
المغني مدفعيته الثقيلة عبر رائعة «اصْحاب البارود والكارابيلا».
في المظاهرات التي كان المغاربة يخرجون فيها للمطالبة بإسقاط الفساد، لم
يكونوا يحملون معهم كل مكبرات الصوت التي استعملها أصحاب ذلك العرس. كان
المغني مثل دابة بلهاء خرجت من نفق واكتشفت الضوء، ولم يتوقف عن الصراخ
إلا بعد أن تبيّن له الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
لم أكن وحدي ضحية ذلك العرس، بل إن المنطقة العامرة بآلاف المنازل كان
سكانها يشاركون في ذلك الزفاف عبر أرق إجباري، ولا أحد فينا قرر أن يخرج
في عز الليل رافعا لافتة ضد الفساد، فساد أخلاق مجتمع، لأننا شعب ينافق
ذاته ويصف نفسه بالمتسامح، لذلك ندفن الغم في قلوبنا ونقول «الساعة لله».
في الأشهر المقبلة، وهي أشهر صيف قائظ لا يطاق، يجب أن نرفع أكف الضراعة
لله العلي القدير أن يُكثر من الطلاق ويقلـِّل من الزواج، لأن الطلاق لا
«زفة» فيه ولا دقة مراكشية ولا ركّادة ولا جْدية، كما أن المطلقين
والمطلقات لا يخرجون من عند العدول ليركبوا قافلة من السيارات ويوقظوا
مدينة بكاملها، لهذه الأسباب يبدو الطلاق أجمل الحلال عند النائمين. في
كثير من الأحيان، يسمع الجيران بأن جارهم سيتزوج فيطلبون اللجوء عند
عائلاتهم في مناطق بعيدة، لأنهم متأكدون من أن النوم لن يعرف إلى جفونهم
سبيلا خلال أيام، وهناك جيران يسافرون حتى ينتهي زفاف جارهم، ومع ذلك نقول
إننا مجتمع متحاب ومتآزر. طبيعي أن نقول ذلك، لأن الكلام الفارغ هو كل ما
تبقى من رأسمالنا، لأننا صرنا شعبا يستحلي الكذب على نفسه، ونقول إننا
مجتمع متضامن، ونلوم «النصارى» لأنهم فقدوا الروابط الأسرية والاجتماعية،
بينما الحقيقة أن الأوربيين يعودون اليوم بقوة لشد أزر بعضهم بعضا وتوثيق
روابطهم الاجتماعية، بينما روابطنا العائلية والمجتمعية تذوب مثل قطعة
جليد تحت الشمس. لا يحدث في أوربا، أو في أماكن أخرى من هذا العالم، أن
يحتفل شخص بزفافه بينما يبقى ربع سكان المدينة مستيقظين بسبب الضجيج، ولا
يحدث في أي مكان في العالم أن يخسر أصحاب العرس ميزانية حقيقية من أجل
كراء مكبرات صوت قوية للتنكيل بالشيوخ والنساء والأطفال الذين يريدون
النوم، ولا يحدث في أي مكان في العالم أن ينتهي العرس في الصباح ثم يقرر
أصحابه الانطلاق في قافلة طويلة من السيارات وهم يطلقون منبهات سياراتهم
لكي يوقظوا باقي البشر. دائما أتمنى لهؤلاء طلاقا سريعا وحياة زوجية أقصر
من كعب حذاء، ولا ضرر في أن يتزوجوا مرة أخرى، لأن الزواج الثاني عادة ما
يكون في السر ولا يسمع به أحد تقريبا.
الأوربيون، الذين نضحك على عاداتهم غير الاجتماعية، عادة ما ينهون حفل
زفافهم قبل غروب الشمس، وحينما يحتاجون إلى ضجيج في الشارع فإنهم يربطون
«قزديرة» صغيرة خلف سيارتهم، والعريس والعروس وحدهما يركبان سيارة
وينطلقان نحو وجهة مجهولة، أما عندنا فإن الأمة كلها تتبع العروسين. في كل
الأحوال سنبقى كما كنا دائما، وفي المستقبل ستسوء تصرفاتنا أكثر وتنحدر
أخلاقنا أكثر فأكثر، ومع ذلك سنظل نضحك على النصارى لأنهم سيئون وسيذهبون
إلى جهنم، وسنستمر في مدح أنفسنا لأننا مسلمون وسنذهب إلى الجنة لأننا أمة
تحمل شعار «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»، بينما آخر واحد فينا
يتزوج يُبقي أمة محمد بلا نوم.
عبد الله الدامون ـ عن جريدة المساء
لكنني نمت بعد أن نام آخر مدعو، ليس لأنني العريس، بل لأني لم أستطع النوم
إلا بعد أن أقفل المغني فاه، لأنه كان يبدو لي وكأنه يصرخ في الغرفة
المجاورة. مغنو الأعراس عادة ما يفضلون البداية بالأغاني الكلاسيكية،
فيغنـّون لمحمد عبد الوهاب في العاشرة ليلا، ولفريد الأطرش في الحادية
عشرة، ثم لعبد الحليم في منتصف الليل، ومع مطلع الفجر يكونون قد دخلوا في
جدْبة «زيد سرْبي أمول البار» و«الفيزا والباسبور»، ومع مطلع الصبح يطلق
المغني مدفعيته الثقيلة عبر رائعة «اصْحاب البارود والكارابيلا».
في المظاهرات التي كان المغاربة يخرجون فيها للمطالبة بإسقاط الفساد، لم
يكونوا يحملون معهم كل مكبرات الصوت التي استعملها أصحاب ذلك العرس. كان
المغني مثل دابة بلهاء خرجت من نفق واكتشفت الضوء، ولم يتوقف عن الصراخ
إلا بعد أن تبيّن له الخيط الأبيض من الخيط الأسود.
لم أكن وحدي ضحية ذلك العرس، بل إن المنطقة العامرة بآلاف المنازل كان
سكانها يشاركون في ذلك الزفاف عبر أرق إجباري، ولا أحد فينا قرر أن يخرج
في عز الليل رافعا لافتة ضد الفساد، فساد أخلاق مجتمع، لأننا شعب ينافق
ذاته ويصف نفسه بالمتسامح، لذلك ندفن الغم في قلوبنا ونقول «الساعة لله».
في الأشهر المقبلة، وهي أشهر صيف قائظ لا يطاق، يجب أن نرفع أكف الضراعة
لله العلي القدير أن يُكثر من الطلاق ويقلـِّل من الزواج، لأن الطلاق لا
«زفة» فيه ولا دقة مراكشية ولا ركّادة ولا جْدية، كما أن المطلقين
والمطلقات لا يخرجون من عند العدول ليركبوا قافلة من السيارات ويوقظوا
مدينة بكاملها، لهذه الأسباب يبدو الطلاق أجمل الحلال عند النائمين. في
كثير من الأحيان، يسمع الجيران بأن جارهم سيتزوج فيطلبون اللجوء عند
عائلاتهم في مناطق بعيدة، لأنهم متأكدون من أن النوم لن يعرف إلى جفونهم
سبيلا خلال أيام، وهناك جيران يسافرون حتى ينتهي زفاف جارهم، ومع ذلك نقول
إننا مجتمع متحاب ومتآزر. طبيعي أن نقول ذلك، لأن الكلام الفارغ هو كل ما
تبقى من رأسمالنا، لأننا صرنا شعبا يستحلي الكذب على نفسه، ونقول إننا
مجتمع متضامن، ونلوم «النصارى» لأنهم فقدوا الروابط الأسرية والاجتماعية،
بينما الحقيقة أن الأوربيين يعودون اليوم بقوة لشد أزر بعضهم بعضا وتوثيق
روابطهم الاجتماعية، بينما روابطنا العائلية والمجتمعية تذوب مثل قطعة
جليد تحت الشمس. لا يحدث في أوربا، أو في أماكن أخرى من هذا العالم، أن
يحتفل شخص بزفافه بينما يبقى ربع سكان المدينة مستيقظين بسبب الضجيج، ولا
يحدث في أي مكان في العالم أن يخسر أصحاب العرس ميزانية حقيقية من أجل
كراء مكبرات صوت قوية للتنكيل بالشيوخ والنساء والأطفال الذين يريدون
النوم، ولا يحدث في أي مكان في العالم أن ينتهي العرس في الصباح ثم يقرر
أصحابه الانطلاق في قافلة طويلة من السيارات وهم يطلقون منبهات سياراتهم
لكي يوقظوا باقي البشر. دائما أتمنى لهؤلاء طلاقا سريعا وحياة زوجية أقصر
من كعب حذاء، ولا ضرر في أن يتزوجوا مرة أخرى، لأن الزواج الثاني عادة ما
يكون في السر ولا يسمع به أحد تقريبا.
الأوربيون، الذين نضحك على عاداتهم غير الاجتماعية، عادة ما ينهون حفل
زفافهم قبل غروب الشمس، وحينما يحتاجون إلى ضجيج في الشارع فإنهم يربطون
«قزديرة» صغيرة خلف سيارتهم، والعريس والعروس وحدهما يركبان سيارة
وينطلقان نحو وجهة مجهولة، أما عندنا فإن الأمة كلها تتبع العروسين. في كل
الأحوال سنبقى كما كنا دائما، وفي المستقبل ستسوء تصرفاتنا أكثر وتنحدر
أخلاقنا أكثر فأكثر، ومع ذلك سنظل نضحك على النصارى لأنهم سيئون وسيذهبون
إلى جهنم، وسنستمر في مدح أنفسنا لأننا مسلمون وسنذهب إلى الجنة لأننا أمة
تحمل شعار «المسلم من سلم الناس من لسانه ويده»، بينما آخر واحد فينا
يتزوج يُبقي أمة محمد بلا نوم.
عبد الله الدامون ـ عن جريدة المساء