مداخلة الأستاذ عبد الحميد الرايس في ندوة حول موضوع شخصيات وأعلام من الريف
عندما عرض علي الإخوة في جمعية ذاكرة الريف المشاركة في ندوة موضوعها يتمحور حول شخصيات ريفية، أبدينا موافقتنا المبدئية والأولية وعبرنا عن استعدادنا للمساهمة في كل نشاط إشعاعي من شأنه إضاءة جوانب منسية من تاريخنا
نظمت جمعية ذاكرة الريف بمناسبة الذكرى 43 لرحيل الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، ندوة فكرية في موضوع: "شخصيات وأعلام من الريف، شارك فيها الأستاذين، عمر الصابري وعبد الحميد الرايس، وفيما يلي مضامين المداخلة التي تقدم بها الأستاذ عبد الحميد الرايس تحت عنوان
شخصية القاضي عبد الكريم الخطابي
عندما عرض علي الإخوة في جمعية ذاكرة الريف المشاركة في ندوة موضوعها يتمحور حول شخصيات ريفية، أبدينا موافقتنا المبدئية والأولية وعبرنا عن استعدادنا للمساهمة في كل نشاط إشعاعي من شأنه إضاءة جوانب منسية من تاريخنا
أثناء بحثي عن الشخصية التي سأعمل على تقديمها والتعريف بها، ألفيت نفسي أمام العديد من الأسماء والأعلام التي أنجبتها أرض الريف الطاهرة منذ العصور القديمة مرورا بالفتح الإسلامي إلى المرحلتين الحديثة والمعاصرة
وبطبيعة الحال تتوزع وتتعدد هذه الشخصيات بحسب اهتماماتها والأدوار التاريخية التي أنجزتها أو ساهمت فيها، منها شخصيات سياسية أنيطت بها أدوارا محلية وأحيانا وطنية، ومنها أصحاب الطرق الصوفية والشرفاء والفقهاء، ومنها كذلك الكتاب والأدباء، ومنها كذلك الشخصيات التاريخية ذات البعد الجهادي التحرري المقاوم لكل أشكال الغزو الخارجي
وتركيزا على هذا الجانب الأخير، نذكر من بين الشخصيات الجهادية خلال القرن العشرين، على سبيل المثال لا الحصر، الشهداء سيدي محمد أمزيان الريفي والسي محند أعزوز والفقيه السي عبد الكريم الخطابي
وارتباطا بذكرى رحيل المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي الريفي قررت أن أقتصر على التعريف بوالده القاضي عبد الكريم والوقوف على بعض مواقفه ومساهماته السياسية في خدمة الوطن لعلنا نكتشف ونقف على بعض معالم هذه الشخصية الفريدة التي رسمت الخطى والمعالم الأساسية للذي سيعرف لاحقا بالمجاهد محمد بن عبد الكريم
الانتماء العائلي والقبلي
ينتمي عبد الكريم الخطابي إلى مدشر أجدير التابع لقسمة أيت يوسف وعلي التي تكون مع أيث علي إحدي القسمات الخمس لقبيلة أيث ورياغل (التي تتكون من خمسة أخماس). وتتكون أجدير من ثلاثة فروع وهي أيث عرو عيسى - أيث مسعود أيوسف - أيث زاعا. وإلى هذه الأخيرة ينتمي الفقيه عبد الكريم وعائلته. ويعرف البيت العائلي الكبير بلفظة " ذخانت إعبدكريمن" التي جاء أصل تسميتها من تكرار إسم عبد الكريم في سلسلة حبل النسب العائلي
إن أول ما يعترض المهتم بتاريخ المقاومة الريفية وبشخصياتها المحورية دلالة اسم " الخطابي" المضاف إلى الاسم الأصلي كلقب أو " كنية" أو لتعريف إضافي، وهو الذي اشتهر به الفقيه عبد الكريم في البداية، ومن بعده ابنه الأمير محمد بن عبد الكريم
فمنذ أن ذاع صيت المقاومة الريفية في العشرينيات من القرن المنصرم، حتى قام العديد من المهتمين إلى البحث عن أصول هذه الشخصية الكاريزمية وتحديد انتمائها، وتمخض عن ذلك الكثير من الجدال والتساؤل والانقسام في تفسير وفهم جذور هذه التسمية
التفسير الأول: تبناه العديد من الكتاب المغاربة والأجانب، الذين اعتبروا الاسم الإضافي "الخطابي" مشتق من لفظة " أيث خطاب" إحدى أخماس القبيلة الورياغلية، وبذلك فإن المغزى من إيراد الاسم الإضافي هو المزيد من الوضوح في تحديد النسب الانتمائي لإحدى مكونات القبيلة
التفسير الثاني: يربط التسمية بدلالتها الرمزية المرتبطة بالذاكرة والتاريخ الإسلامي، ويعتبر تبني هذه التسمية الإضافية مجرد إضفاء لصفة الشرف والانتماء إلى الخليفة عمر بن الخطاب . وقد روجت السلطات الاستعمارية لهذه الفكرة إبان المقاومة الريفية للاحتلال حتى تظهر شخصية محمد بن عبد الكريم في صورة المدعي المتطاول . وتبنى الباحث الأنتروبولوجي دافيد هارت هذا الطرح معتمدا في ذلك على الرواية الشفوية التي استقاها من مستجوبيه بأيث يوسف وعلي وأيث عبد الله الذين يقولون بأن نسبهم ينتمي إلى عمر بن الخطاب
وأخيرا كرر أحد الباحثين المغاربة رأي أساطين الاستعمار أمثال ليوطي وفسر استعمال عبد الكريم الخطابي لهذا الاسم كمحاولة لتحقيق أغراض سياسية ودعائية
دلالة التسمية وتداولها
قياسا على التسمية التي تطلق على أربعة أخماس من الأخماس الخمسة المكونة لقبيلة أيث ورياغل (إذا استثينا خمس إمرابظن فإن الأخماس الأخرى هي أيث بوعياش، أيث حذيفة، أيث عبد الله، وكل من أيث يوسف وعلي وأيث علي)، فإن تسمية أيث خطاب تحيل بدورها على جد مفترض أصلي، حقيقيا كان أم وهميا، تنتمي إليه العناصر المكونة له
فمن هم أيث خطاب بالتحديد؟
يطلق هذا الاسم على قسمتي أيث يوسف وعلي/ أيث علي المشكلتين لإحدى أخماس القبيلة الورياغلية، ويدرج معها البعض أيضا خمس أيث عبد الله، وليس من المستبعد أن تكون إضافة الخمس الأخير عليهما من قبيل تأكيد مضمون الرواية الشفوية التي تذهب إلى القول بالأصول المشتركة لكل من أيث يوسف وعلي وأيث علي من جهة وأيث عبد الله من جهة أخرى، على اعتبار أنهم إخوة غير أشقاء
بناء على ما تقدم يصبح كل المنتمين إلى المداشر الواقعة في المجال الترابي لقسمتي أيث يوسف وعلي/ أيث علي وحتى أيث عبد الله حسب البعض خطابيين بالضرورة وبقوة الانتماء إلى الجد المشترك، وبالتالي يحق لهم تداول هذه التسمية وتضمينها في وثائقهم للمزيد من الإيضاح والتأكيد على الانتماء المجالي ضمن القبيلة الورياغلية
ونورد الآن نماذج من الوثائق العدلية لها ما يكفي من الأقدمية التاريخية للتأكيد على أصالة هذه التسمية وتغطيتها لأجزاء كبيرة من القبيلة الورياغلية
الحمد لله أباح النكاح وحرم البغي... وبعد فقد تزوج على بركة الله... الشاب أبو عمر بن موسى بن مسعود العمرني الخطابي... مؤرخة في 24 يناير 1747. اشترى علي بن عبد الكريم الحتمي القمراوي الخطابي الورياغلي... مؤرخة في 10 شوال 1213 الموافق 03 شتمبر 1816
اشترى الحاج محمد العربي التجرتي العلوي الخطابي الورياغلي من البائعين... مؤرخة في 01 شعبان الأبرك 1218 الموافق لسنة 1803
مسألة الأصول
أثارت نقطة أصل العائلة الخطابية "إعبد كريمن" نفس الجدال والنقاش الذي أثارته التسمية نظرا لارتباط الأسماء بالأصول، والعكس صحيح
ومن المعلوم أن مسألة تتبع الأصول العرقية والنسبية في مجتمع ريفي تقليدي أمر مستعص على الإحاطة به، وذلك لغياب الوثيقة المكتوبة
ولعل ما يزيد من صعوبة الوقوف والانتهاء إلى تحديد نسبي وتأصيل للانتماء، توالي الهجرات التي شهدها المجتمع الريفي والورياغلي تحديدا، وأيث خطاب على وجه الدقة بدليل نزوح معظمهم من المناطق الجبلية من القبيلة واستقرارهم في المنخفضات. وتشكل هجرة أيث وجدير دليلا قاطعا على هجرة شبه جماعية من المدشر الأصلي "ذاجذيرث" واستقرارهم بمنطقة الساحل القريب من الجزيرة والتي أطلقوا عليها أجدير المزمة تمييزا لها عن كل من أجدير بوقياضن وأجدير تمسمان وأجدير إكزناين
يعود هذا النزوح إلى حوالي 300 سنة، ورغم هذا الانتقال استطاعوا الحفاظ على أنسابهم وتسمياتهم الفرعية بكثير من الدقة والحرص
وإذا كان أفراد جماعة أيث أوجذير يقرون بحكم المعايشة الطويلة والتواتر في الرواية بأن عائلة إعبدكريمن متأصلة وقديمة الانتماء إلى الريف، فإنه بحكم انتماء الشخصية عبد الكريم وابنه محمد بأحداث أصبحت معها مسألة تأصيل الهوية مثار نقاش وجدل
تاريخية هامة فالتهامي الوزاني يقول بأن عائلة بأن عائلة الخطابي تنتمي إلى الخليفة عمر بن الخطاب أي من الحجاز ، وذهب البوعياشي إلى القول بانتسابها إلى أولاد عبد الله ابن الخطاب الشريف الزياني من ذرية ملوك تلمسان وتقدمت بالصحراء... ومن أحفاد عمران بن مولاي إدريس الأصغر الذي خص له سكان بلاد الريف وبادس بعد موت أبيه ، ويورد الأستاذ العربي اللوه على لسان الفقيه السي عبد السلام الدراوي الذي كان صديقا للفقيه عبد الكريم قوله أنه روى عنه أن أصله من وادي درعة، وأنهم من الأشراف ، فيما يذهب الباحث دايفيد هارت إلى أن الجد الأكبر السي عبد الكريم الأول الذي منح اسما للعائلة، كان شريفا إدريسيا من منطقة أيث عرو عيسى من قبيلة اكزناين ، مقابل حميع هذه الآراء التي ترجع أصل العائلة إلى مناطق من داخل المغرب، يذكر البعض الآخر على قدوم العائلة من أصول خارجية عربية قديمة ، وقال محمد أزرقان في مخطوطه بنفس الفكرة أي أن أصله من جزيرة العرب ، وهذا هو الرأي نفسه الذي تردده العائلة الخطابية وتناقلته عبر الأجيال وكما نقله الصحفي الفرنسي روجيه ماتيو على لسان محمد بن عبد الكريم قوله
"... ننتسب إلى السي محمد بن عبد الكريم الريفي .الحجازي الأصل وقد نشأ أجدادي في بلدة ينبع من أعمال الحجاز، غادرت عائلتي موطنها الحجاز وجاءت لتستوطن مراكش في القرن الثالث للهجرة، وأقامت بين أفراد قبيلة بني ورياغل وبذلك تكون البلاد الواقعة بين البحر وتارجيست هي موطننا منذ ألف عام"
المحيط العائلي والأسري
هو الفقيه السي عبد الكريم بن السي موحند بن السي عبد الكريم بن السي أحمد بن الريفي، تعتبر هذه الأسرة من الأسر الريفية القليلة التي توارثت المعرفة جيلا بعد آخر ، وهو ما تؤكده الرواية سواء تلك المتداولة بين أفراد العائلة أو تلك الشائعة في المحيط القبلي. وتدعمه بشكل أو بآخر كلمة السي التي تقترن بجل أسماء أجداد هذه العائلة، والتي تعبر عن العلم والمعرفة. ومما يرسخ هذا القول المهام التي أوكلت إلى أفراد هذه العائلة منذ منتصف القرن التاسع عشر على الأقل
فكان لسي عبد الكريم أخ يدعى السي محمد المنفوشة ذاع صيته كأحد العلماء النبهاء، فرغم حداثة سنه اختاره السلطان الحسن الأول لتعليم أبنائه داخل القصر السلطاني، وتقول الرواية العائلية
"... كان السي موحند لا يشق له غبار في الحفظ والذكاء، فقد حفظ القرآن بيسر وسهولة في منزل والديه، ولا أحد من الأقارب كان يدري أنه يقرأ القرآن لأنه كان يرعى بهائم أبيه، التي يسوقفها في الصباح إلى حيث ترتاع رفقة أقرانه الرعاة، ويحتطب ويعود في العشي إلى بيته ثم يأخذ في استظهار القرآن الكريم رفقة أخيه عبد الكريم الذي كان يتمرد أحيانا لشغفه الكبير باللعب والتسلية، وكان أبوهما يوميا يحرر ربع حزب فيستظهره بصوت منخفض ثم لا يلبث أن يكتفي بإمعان النظر في اللوح، وكلما زاد له والده قدرا من الآيات على القدر المألوف إلا وتلقفه بارتياح إلى أن صار والده السي محند يملأ له لوحه من جهتين فيستظهره ليلا، وفي نفس الوقت يضبط رسم كل كلمة بأوضاعها الكتابية دون أن يفقه لذلك معنى، وهذا النابغة تاقت نفسه لقراءة السبع، فاستظهرها بسهولة، بدأها على والده الذي لم يكن يحفظ إلا روايتين وأضاف إليها العشر بفاس وذلك حينما استقر بها للدراسة والتثقيف في العلوم المتداولة، وذاع صيته فاستدعاه السلطان لتعليم أولاده....إلا أنه ضاق ذرعا بذلك لأنه ألف التقشف في الملبس والمسكن، فهو يسكن في المدرسة كغيره من الطلاب وينام وسيتيقظ وقت شاء، ولم يطق صبرا واحتمالا لحضور سائق بغلة ليركبها إلى القصر والسائس بجانبه، ثم لا ندري ما كان بعد هذه الوضعية، إلى أن أصبح ذات يوم ميتا بدون مرض سابق في فراشه بالمدرسة ولما علم أخوه عبد الكريم بموته توجه إلى فاس زائرا لضريحه، وآخذا لما سلم من أيدي المتسللين..."
إضافة إلى السي محند كان لعبد الكريم عم يدعى السي زيان كان هو الآخر على مستوى كبير من المعرفة والدراية، وعينه المولى الحسن قائدا على أيث يوسف وعلي، وتشهد الوثائق الرسمية بنشاطه وأعماله ، وقد عاصر أحدهما الآخر لفترة وجيزة أي البداية المهنية للقاضي عبد الكريم ونهاية عمر السي زيان
هذه الإشارات السابقة تعمدنا الوقوف عليها للتنصيص والتأكيد على المستوى العلمي لهذه العائلة ولمدى تفتحها ودرايتها لمحيطيها، القبلي القريب وكذا الوطني الذي رسخه انتقال العائلة للعيش في حواضر المغرب
شخصية القاضي عبد الكريم الريفي
بداية يجب التذكير بأن المادة المقدمة هنا بشأن شباب وتكون الفقيه عبد الكريم معظمها مستقى من الرواية الشفوية التي تناقلتها مختلف أجيال هذه العائلة، وتبقى المصادر المكتوبة شحيحة حول هذه النقطة نظرا لغياب تاريخ اجتماعي ووثائق مختلفة كفيلة لكشف عدد من النقط الغامضة المجهولة من تاريخنا
ازداد الفقيه بمدشر أجداده أجدير حوالي سنة 1860، وبها حفظ القرآن وتلقى مبادئ العلوم الشرعية كالنحو والفقه والفرائض على يد والده الفقيه المفتي السي محند. تقول الرواية الشفوية العائلية أن الفقيه أثناء شبابه كان قوى العضلات، كثير الحركة ، يتمتع هو الآخر كأفراد عائلته ولو بنوع من التفاوت بقوة الذاكرة والذكاء الوقاد، خاصة في المجال الاجتماعي، وكان له ميل إلى الشغب مع أقرانه، فأشار عليه أبوه السي محند بمغادرة أجدير والذهاب إلى فاس لاستكمال علمه، فوافق على مقترح والده، الذي زوده بما يتطلب الأمر من المصاريف. وبعد أن زوده بلباس مناسب نصحه باستعماله حالما يصل إلى فاس، وبها يدخل القرويين لكي يحظى باحترام الجميع بمن فيهم الفقهاء والعلماء، وأكد عليه أن يكون متزنا
ورغم الذكاء والفطنة اللتان تميزانه إلا أنه لم يستطع في بداية إقامته بفاس وجلوسه في حلقات العلماء من إدراك كل ما يلقى من دروس في القرويين، وأصبح ينتقل من حلقة إلى أخرى بحثا عن ضالته إلى أن انتهى به الأمر إلى حلقة الفقيه كنون، ومنذ ذلك الحين وعلى يده بدأ يدرك المعاني ويستوعبها، وما كان منه إلا أن بدأ في مجالسته بالإضافة إلى العلماء الآخرين. ويضيف الفقيه عبد الكريم قائلا، بعد مدة من إقامتي بفاس عزمت الرجوع إلى أجدير حيث أهلي، فأشعرت الفقيه كنون، وقال لي إذهب فقد نلت المرغوب، ولما كان استقراري بمدشري أجدير أخذت أكتب الوثائق العدلية والتعاملية، ثم أصبحت فيما بعد قاضيا بظهير مولوي، ولم يكن هذا الظهير بطلب من الفقيه بل بعث له كما حدث لخاله وصهره السي أحمد القاضي اللذان أصبحا قاضيان يشتغلان بصفة رسمية
عبد الكريم بين الفقه والقضاء
عندما عاد الفقيه عبد الكريم إلى بلده انخرط في نشاطه وعمله بين ذويه كمستشار ومرجع في الأمور والأحكام الشرعية المرتبطة بالعبادات والمعاملات، وبطبيعة الحال لم يكن عبد الكريم الفقيه الوحيد في الناحية بل كان غيره من الفقهاء يمارسون أنشطتهم الاعتيادية. إذا كان هذا الأمر مؤكدا وغير قابل للنقاش فإن مسألة الانتقال من مهام الفقيه إلى مستوى القضاء ليس بالأمر الهين واليسير الذي لا يتيسر للجميع عكس ما قد يعتقد البعض.
فإلى أي حد يمكن الوثوق والاتفاق مع القول بأن التكليف بمهمة القضاء منح لعبد الكريم دون أن يسعي نحوها؟
أشارت الكاتبة الاسبانية ماريا روزا دي مادارياكا في معرض حديثها عن الدوافع التي دفعت السلطان الحسن الأول لاختيار الفقيه، إلى أن ذلك راجع بالأساس إلى الحظوة والمكانة التين كانتا له بين قومه بالإضافة إلى سمعته ومعرفته. ارتباطا بنفس الفكرة وتفسيرا لموقف المخزن نعتقد أن ذلك القرار جاء في سياق أحداث وطنية داخلية اقتضت إجراءات عملية شاملة، ويرجع ذلك بالأساس إلى رغبة المخزن بتجاوز مخلفات حرب تطوان 1860 وانعكاساتها السلبية على المستويات الاقتصادية السياسية الاجتماعية ومن ثم سعي الحسن الأول جاهدا لاسترجاع هيبة المخزن والدولة وتحقيق الوحدة الوطنية وبسط نفوذ الدولة / المخزن على ربوع المغرب بأسره، عبر خلق تمثيليات وامتدادات له في عموم المناطق. وقد عرفت القبيلة الورياغلية زمن الحسن الأول أكثر من قائد محلي، أحدهما عم عبد الكريم وهو السي زيان على أيث يوسف وعلي والآخر القائد حدو على أيث علي، واستكمل المخزن حضوره بتعيين قاض شاب طموح لم يكن إلا قريب القائد السي زيان ألا وهو الفقيه السي عبد الكريم
كانت رسالة التعيين لمنصب القضاء من طرف الحسن الأول بتاريخ: 08 يونيو 1880
بتاريخ 09 ماي 1883 توصل برسالة أخرى تفيد الاحتفاظ به بنفس المنصب
16 دجنبر 1906 يتوصل الفقيه بظهير تولية من السلطان عبد العزيز
04 فبراير 1907 رسالة أخرى من نفس السلطان تعينه أمينا على القبيلة كوسيط بينها وبين المخزن
يوليوز 1908 رسالة موجهة لقبيلة أيث ورياغل وقاضيها الفقيد عبد الكريم كجواب على نصرتهم له كسلطان
19 شتنبر 1908 / 31 اكتوبر 1908 رسالة جوابية من السلطان عن خبر دخول القبائل الريفية تحت سلطة المخزن
الوثائق التي تحمل اسم وتوقيع القاضي عبد الكريم
وحتى يتبين لنا بالملموس صحة ممارسة القاضي عبد الكريم لمهامه، نورد سلسلة من الوثائق العائلية التي تحمل اسم وتوقيع الفقيه وهي بالترتيب حسب الأقدمية
تاريخ الوثيقة: 12 مارس 1894
تاريخ الوثيقة: 14 نونبر 1894
تاريخ الوثيقة: 22 غشت 1895
تاريخ الوثيقة: 12 يونيو 1896
تاريخ الوثيقة: 14 يونيو 1900
تاريخ الوثيقة: 16 يناير 1901
تاريخ الوثيقة: 18 يوليوز 1901
تاريخ الوثيقة: 19 فبراير 1902
تاريخ الوثيقة: 19 ماي 1906
تاريخ الوثيقة: 28 نونبر 1906
تاريخ الوثيقة: 25 غشت 1909
تاريخ الوثيقة: 28 نونبر 1909
تاريخ الوثيقة: 11 ماي 1913
تاريخ الوثيقة: 07 يناير 1920
وتكون الوثيقة الأخيرة التي أنهينا بها سلسلة الوثائق التي قدمناها، من بين آخر الوثائق التي حررها أو وقعها القاضي عبد الكريم، ففي شهر غشت من نفس السنة أي 1920 انتقل الفقيه إلى عفو الله
نماذج من المواقف السياسية للفقيه القاضي
الموقف من بوحمارة
يعتبر الدعي بوحمارة أحد أخطر العناصر التي ناوأت السلطة المخزنية في العقد الأول من القرن العشرين، بل وساعدت في التعجيل بزوال سيادته، وقد استغلت هذه الشخصية ضعف الدولة المغربية لتقوم بتهييج القبائل الواقعة ناحية تازة وفاس بانتحال صفة ابن المولى الحسن الأول المسمى مولاي امحمد والذي يعتبر السلطان الشرعي الأحق بالملك، وبفضل الدعم الأجنبي استطاع بوحمارة أن يصول ويجول لمدة تقارب 7 سنوات متنقلا بين القبائل المتواجدة ناحية تازة ، واستقر به الحال إلى قصبة سلوان ناحية الناظور، وقد عجز المخزن عن محاربته والقضاء عليه ، لكن الورياغليون تمكنوا من هزمه في أكتوبر 1908 بسهل انكور
وتؤكد العديد من المراجع التاريخية في الموضوع على الدور الفعال الذي قام به الفقيه عبد الكريم في التحضير العسكري والاستعداد النفسي والدعائي التحريضي لمقاومة بوحمارة ، ويتحفظ جرمان عياش حول موقف الفقيه عبد الكريم معتمدا في ذلك على ما ذهب إليه الكاتب العسكري الاسباني مالدونادو الذي قال بهذا الرأي، ويدعم عياش موقفه هذا منطلقا من الرسالة المخزنية التي وجهها إليه السلطان المولى عبد الحفيظ بتاريخ: 29 دجنبر 1908 وفيها نعلم أنه قدم تقريرا أمام إخوانه عن موقفه، وأنه فرضت عليه عقوبة على شكل غرامة
بطبيعة الحال لا يمكن إصدار أحكام نهائية ومطلقة حول موقف الفقيه خلال تلك المرحلة العصيبة من تاريخ الريف والمغرب، إلا أننا نرجح القول الأول بالمشاركة الفعالة في محاربة الدعي بوحمارة، ولعل الأهازيج المحلية (إيزران ) أو كما يسميها الأستاذ عمر الصابري المرددات العفوية، تؤكد مشاركته الفعلية
ونحن إذ نقدمها هنا يجب أن نعي جميعا قيمتها التاريخية كتراث فني ملحمي يؤرخ لأحداث حقيقية لا غنى للباحث عنها في أية محاولة تروم إعادة كتابة تاريخ المنطقة والمغرب بصفة عامة
تقول هذه المقاطع
أشدي أوجذير أيزم نروضا افرق أوقرطاس أو عبد الله ذو حذيفة السي عبد الكريم قاذوماس جماعث الفهما السي محند أوعزوز كفراون إفنى
الموقف من الصراع الألماني / الفرنسي
بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى وانضمام تركيا إلى جانب الألمان، انطلقت الدعاية الألمانية داخل البلدان الإسلامية ومنها المغرب، وتحديدا في الجزء الشمالي منه تدعو إلى نصرة السلطان التركي حليف الألمان، وقد استغل الألمان توفرهم على تمثيليات دبلوماسية ومراكز تجارية في جل مدن الشمال بما فيها سبتة ومليلية للاتصال بالعديد من الأشخاص ذوي المكانة الوازنة اجتماعيا، وكان أول من اتصل به الألمان في إسبانيا السلطان الأسبق المولى عبد الحفيظ ليربط لهم جسور الاتصال مع عناصر داخل المغرب
وكان الفقيه القاضي عبد الكريم الشخص الريفي الذي اتجهت صوبه أنظار الألمان ليقوم بدعمهم من الريف الأوسط. وفعلا قام هذا الأخير بالتنسيق مع عبد المالك محي الدين الذي استقر بمنطقة قبائل تازة على تنظيم هجومات ضد المراكز الفرنسية
إذا كانت الشعارات التي اعتمدت عليها الدعاية الألمانية قد هيجت العديد من الريفيين الذين قادهم حماسهم واندفاعهم باسم الجهاد، أو أولئك الذين حمستهم القطع النقدية التي كانت تمنح للمقاتلين كأجرة يومية، فإن معظم الريفيين الذين لم يكونوا ينظرون بعين الرضا لهذه المغامرة الجديدة، فالإسبان في جهة الشرق أولى بالمواجهة والقتال مقارنة مع الفرنسيين البعيدين على الريف، فكيف يفسر موقف الفقيه القاضي عبد الكريم وهو من النخبة المتعلمة والعارفة بخبايا الأمور وأبعادها؟ هل تحرك لمجرد وازعه الديني الأخلاقي؟ أم أن الأمر أعقد مما نتصور؟ لقد كان الفقيه واعيا بألاعيب الأسبان ومشاريعهم التوسعية فهو من جانب أراد أن يستقوي عليهم بتهييئ نفسه كمفاوض قوي مستقبلا بكسب الأصدقاء والأتباع ومن ذلك إشرافه على التعبئة واستقطاب المقاتلين ومساعدة عبد المالك، كما أن دعم الألمان المؤازرين من طرف الأتراك المسلمين ينم عند رغبة نفسية وحماسية في نصرة الإسلام، إلا أن أهم الجوانب الخفية في الموضوع هي تلك المرتبطة بعلاقات الفقيه مع الألمان والشركات الألمانية وعلى رأسها Mannesmann، وقد كانت هذه الأخيرة تربط علاقات بكل من الأب عبد الكريم وابنه بمليلية للوصول إلى اتفاق للبحث عن المعادلة داخل الريف بموافقة ودعم من العناصر الأسبان الممتلكين للشركات المعدنية، وفي إطار مشروع سياسي مستقبلي
ألم تكن تلك الأحداث والوقائع من الأسباب التي أدت إلى اعتقال ابنه محمد بمليلية في شتمبر 1915 والتي استمرت إلى غاية غشت من سنة 1916 . كان اعتقال ابنه القاضي بمليلية يعبر عن موقف سياسي عدائي اتجاه آل الخطابي الذين وإن كانوا يلعبون سياسة شد الحبل من طرفهم وطرفه كذلك، إلا أنهم لم يصلوا إلى هذا الحد من العداء
لقد عبر الابن البكر أثناء استنطاقه من قبل الإسبان صراحة على مواقفه العدائية ضد الفرنسيين بل وعلى رغبة الريفيين في توقف الاحتلال الأسباني في حدود المناطق التي احتلتها آنذاك...إلخ
ورغم التحاق ابنه بمليلية في 15 مارس سنة 1917، والتعويض والترقية التي منحتا له والمنحة الدراسية التي أعطيت لابنه الأصغر امحمد، فإن عبد الكريم انتظر كثيرا أن تتغير السياسة الإسبانية تجاه الريف وتعترف بمخاطبها إلا أنها أبت أن تراجع نفسها، وانتظر الفقيه إلى حدود أواسط دجمبر 1918 حين وصل ابنه محمد إلى أجدير ولم يعد بعدها إلى مليلية وكذلك فعل الابن الأصغر في منتصف يناير 1919 وكان أن توقف الفقيه عبد الكريم كلية عن ممارسة أي نشاط سياسي رغم محاولات الإسبان العديدة لثنيه عن رأيه واسترجاع جسور الثقة بينهما، إلا أنه بقي مصرا على موقفه خاصة بعدما تأكد لديه اليقين من عزم الإسبان الاحتلال المباشر للريف دون مراعاة لشعور أبنائه
وبعد استنفاذ كل سبل الإغراء والاستمالة اضطر الاسبان إلى نهج أسلوب التصفية، فأوعزوا إلى من يدس له السم، وهكذا أسلم الروح بتاريخ 07 غشت 1920
الهوامش
اللوه ص 248- عبد الله كنون ص 18- أزرقان، الضلال الوريف في محاربة الريف ص 54- جرمان عياش، أصول حرب الريف ص 162
Juan Pando , p 32 – Maria Rosa Madariaga , p 342 - Jacques Ladreit de la charrière , p 88 .
جرمان عياش، مرجع سابق ص 194
(4) دافيد هارت ص40 – أنظر كذلك كتاب دافيد وولمان ص 75
(5) محمد طحطح ص 65
(6) تاريخ المغرب ج 3 ص 160 البوعياشي، حرب الريف ومراحل النضال ج1 ص 447
( اللوه ، المنهال في كفاح أبطال الشمال ص 248
(9) مجلة أمل، العدد 12 صفحة 52
(10) عبد الله كنون، مرجع سابق نفس الصفحة
(11) أزرقان، الظل الوريف في محاربة الريف ص 54
(12) روجيه ماتيو – ترجمة عمر أبو النصر، مذكرات الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي ص 41
(13) محمد أزرقان، مرجع سابق ص 54
(14) أنظر الإتحاف وأعلام الناس بجمال حاضرة مكناس، الجزء الثاني ص 346
ماريا روزا ذي مادرياكا ص 34
(16) من هذه المراجع نذكر كتاب أسد الريف لمحمد عمر القاضي وحرب الريف ومراحل النضال للبوعياشي ص 164 وكتاب للباحثة الإسبانية ماريا روزا دي ماذرياكا
(17) جلال عيسى، المغرب الكبير ج4 ص 126
(18) جرمان عياش، مرجع سابق ص 236
لؤي الريفي
المملكة العربية السعودية
عندما عرض علي الإخوة في جمعية ذاكرة الريف المشاركة في ندوة موضوعها يتمحور حول شخصيات ريفية، أبدينا موافقتنا المبدئية والأولية وعبرنا عن استعدادنا للمساهمة في كل نشاط إشعاعي من شأنه إضاءة جوانب منسية من تاريخنا
نظمت جمعية ذاكرة الريف بمناسبة الذكرى 43 لرحيل الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، ندوة فكرية في موضوع: "شخصيات وأعلام من الريف، شارك فيها الأستاذين، عمر الصابري وعبد الحميد الرايس، وفيما يلي مضامين المداخلة التي تقدم بها الأستاذ عبد الحميد الرايس تحت عنوان
شخصية القاضي عبد الكريم الخطابي
عندما عرض علي الإخوة في جمعية ذاكرة الريف المشاركة في ندوة موضوعها يتمحور حول شخصيات ريفية، أبدينا موافقتنا المبدئية والأولية وعبرنا عن استعدادنا للمساهمة في كل نشاط إشعاعي من شأنه إضاءة جوانب منسية من تاريخنا
أثناء بحثي عن الشخصية التي سأعمل على تقديمها والتعريف بها، ألفيت نفسي أمام العديد من الأسماء والأعلام التي أنجبتها أرض الريف الطاهرة منذ العصور القديمة مرورا بالفتح الإسلامي إلى المرحلتين الحديثة والمعاصرة
وبطبيعة الحال تتوزع وتتعدد هذه الشخصيات بحسب اهتماماتها والأدوار التاريخية التي أنجزتها أو ساهمت فيها، منها شخصيات سياسية أنيطت بها أدوارا محلية وأحيانا وطنية، ومنها أصحاب الطرق الصوفية والشرفاء والفقهاء، ومنها كذلك الكتاب والأدباء، ومنها كذلك الشخصيات التاريخية ذات البعد الجهادي التحرري المقاوم لكل أشكال الغزو الخارجي
وتركيزا على هذا الجانب الأخير، نذكر من بين الشخصيات الجهادية خلال القرن العشرين، على سبيل المثال لا الحصر، الشهداء سيدي محمد أمزيان الريفي والسي محند أعزوز والفقيه السي عبد الكريم الخطابي
وارتباطا بذكرى رحيل المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي الريفي قررت أن أقتصر على التعريف بوالده القاضي عبد الكريم والوقوف على بعض مواقفه ومساهماته السياسية في خدمة الوطن لعلنا نكتشف ونقف على بعض معالم هذه الشخصية الفريدة التي رسمت الخطى والمعالم الأساسية للذي سيعرف لاحقا بالمجاهد محمد بن عبد الكريم
الانتماء العائلي والقبلي
ينتمي عبد الكريم الخطابي إلى مدشر أجدير التابع لقسمة أيت يوسف وعلي التي تكون مع أيث علي إحدي القسمات الخمس لقبيلة أيث ورياغل (التي تتكون من خمسة أخماس). وتتكون أجدير من ثلاثة فروع وهي أيث عرو عيسى - أيث مسعود أيوسف - أيث زاعا. وإلى هذه الأخيرة ينتمي الفقيه عبد الكريم وعائلته. ويعرف البيت العائلي الكبير بلفظة " ذخانت إعبدكريمن" التي جاء أصل تسميتها من تكرار إسم عبد الكريم في سلسلة حبل النسب العائلي
إن أول ما يعترض المهتم بتاريخ المقاومة الريفية وبشخصياتها المحورية دلالة اسم " الخطابي" المضاف إلى الاسم الأصلي كلقب أو " كنية" أو لتعريف إضافي، وهو الذي اشتهر به الفقيه عبد الكريم في البداية، ومن بعده ابنه الأمير محمد بن عبد الكريم
فمنذ أن ذاع صيت المقاومة الريفية في العشرينيات من القرن المنصرم، حتى قام العديد من المهتمين إلى البحث عن أصول هذه الشخصية الكاريزمية وتحديد انتمائها، وتمخض عن ذلك الكثير من الجدال والتساؤل والانقسام في تفسير وفهم جذور هذه التسمية
التفسير الأول: تبناه العديد من الكتاب المغاربة والأجانب، الذين اعتبروا الاسم الإضافي "الخطابي" مشتق من لفظة " أيث خطاب" إحدى أخماس القبيلة الورياغلية، وبذلك فإن المغزى من إيراد الاسم الإضافي هو المزيد من الوضوح في تحديد النسب الانتمائي لإحدى مكونات القبيلة
التفسير الثاني: يربط التسمية بدلالتها الرمزية المرتبطة بالذاكرة والتاريخ الإسلامي، ويعتبر تبني هذه التسمية الإضافية مجرد إضفاء لصفة الشرف والانتماء إلى الخليفة عمر بن الخطاب . وقد روجت السلطات الاستعمارية لهذه الفكرة إبان المقاومة الريفية للاحتلال حتى تظهر شخصية محمد بن عبد الكريم في صورة المدعي المتطاول . وتبنى الباحث الأنتروبولوجي دافيد هارت هذا الطرح معتمدا في ذلك على الرواية الشفوية التي استقاها من مستجوبيه بأيث يوسف وعلي وأيث عبد الله الذين يقولون بأن نسبهم ينتمي إلى عمر بن الخطاب
وأخيرا كرر أحد الباحثين المغاربة رأي أساطين الاستعمار أمثال ليوطي وفسر استعمال عبد الكريم الخطابي لهذا الاسم كمحاولة لتحقيق أغراض سياسية ودعائية
دلالة التسمية وتداولها
قياسا على التسمية التي تطلق على أربعة أخماس من الأخماس الخمسة المكونة لقبيلة أيث ورياغل (إذا استثينا خمس إمرابظن فإن الأخماس الأخرى هي أيث بوعياش، أيث حذيفة، أيث عبد الله، وكل من أيث يوسف وعلي وأيث علي)، فإن تسمية أيث خطاب تحيل بدورها على جد مفترض أصلي، حقيقيا كان أم وهميا، تنتمي إليه العناصر المكونة له
فمن هم أيث خطاب بالتحديد؟
يطلق هذا الاسم على قسمتي أيث يوسف وعلي/ أيث علي المشكلتين لإحدى أخماس القبيلة الورياغلية، ويدرج معها البعض أيضا خمس أيث عبد الله، وليس من المستبعد أن تكون إضافة الخمس الأخير عليهما من قبيل تأكيد مضمون الرواية الشفوية التي تذهب إلى القول بالأصول المشتركة لكل من أيث يوسف وعلي وأيث علي من جهة وأيث عبد الله من جهة أخرى، على اعتبار أنهم إخوة غير أشقاء
بناء على ما تقدم يصبح كل المنتمين إلى المداشر الواقعة في المجال الترابي لقسمتي أيث يوسف وعلي/ أيث علي وحتى أيث عبد الله حسب البعض خطابيين بالضرورة وبقوة الانتماء إلى الجد المشترك، وبالتالي يحق لهم تداول هذه التسمية وتضمينها في وثائقهم للمزيد من الإيضاح والتأكيد على الانتماء المجالي ضمن القبيلة الورياغلية
ونورد الآن نماذج من الوثائق العدلية لها ما يكفي من الأقدمية التاريخية للتأكيد على أصالة هذه التسمية وتغطيتها لأجزاء كبيرة من القبيلة الورياغلية
الحمد لله أباح النكاح وحرم البغي... وبعد فقد تزوج على بركة الله... الشاب أبو عمر بن موسى بن مسعود العمرني الخطابي... مؤرخة في 24 يناير 1747. اشترى علي بن عبد الكريم الحتمي القمراوي الخطابي الورياغلي... مؤرخة في 10 شوال 1213 الموافق 03 شتمبر 1816
اشترى الحاج محمد العربي التجرتي العلوي الخطابي الورياغلي من البائعين... مؤرخة في 01 شعبان الأبرك 1218 الموافق لسنة 1803
مسألة الأصول
أثارت نقطة أصل العائلة الخطابية "إعبد كريمن" نفس الجدال والنقاش الذي أثارته التسمية نظرا لارتباط الأسماء بالأصول، والعكس صحيح
ومن المعلوم أن مسألة تتبع الأصول العرقية والنسبية في مجتمع ريفي تقليدي أمر مستعص على الإحاطة به، وذلك لغياب الوثيقة المكتوبة
ولعل ما يزيد من صعوبة الوقوف والانتهاء إلى تحديد نسبي وتأصيل للانتماء، توالي الهجرات التي شهدها المجتمع الريفي والورياغلي تحديدا، وأيث خطاب على وجه الدقة بدليل نزوح معظمهم من المناطق الجبلية من القبيلة واستقرارهم في المنخفضات. وتشكل هجرة أيث وجدير دليلا قاطعا على هجرة شبه جماعية من المدشر الأصلي "ذاجذيرث" واستقرارهم بمنطقة الساحل القريب من الجزيرة والتي أطلقوا عليها أجدير المزمة تمييزا لها عن كل من أجدير بوقياضن وأجدير تمسمان وأجدير إكزناين
يعود هذا النزوح إلى حوالي 300 سنة، ورغم هذا الانتقال استطاعوا الحفاظ على أنسابهم وتسمياتهم الفرعية بكثير من الدقة والحرص
وإذا كان أفراد جماعة أيث أوجذير يقرون بحكم المعايشة الطويلة والتواتر في الرواية بأن عائلة إعبدكريمن متأصلة وقديمة الانتماء إلى الريف، فإنه بحكم انتماء الشخصية عبد الكريم وابنه محمد بأحداث أصبحت معها مسألة تأصيل الهوية مثار نقاش وجدل
تاريخية هامة فالتهامي الوزاني يقول بأن عائلة بأن عائلة الخطابي تنتمي إلى الخليفة عمر بن الخطاب أي من الحجاز ، وذهب البوعياشي إلى القول بانتسابها إلى أولاد عبد الله ابن الخطاب الشريف الزياني من ذرية ملوك تلمسان وتقدمت بالصحراء... ومن أحفاد عمران بن مولاي إدريس الأصغر الذي خص له سكان بلاد الريف وبادس بعد موت أبيه ، ويورد الأستاذ العربي اللوه على لسان الفقيه السي عبد السلام الدراوي الذي كان صديقا للفقيه عبد الكريم قوله أنه روى عنه أن أصله من وادي درعة، وأنهم من الأشراف ، فيما يذهب الباحث دايفيد هارت إلى أن الجد الأكبر السي عبد الكريم الأول الذي منح اسما للعائلة، كان شريفا إدريسيا من منطقة أيث عرو عيسى من قبيلة اكزناين ، مقابل حميع هذه الآراء التي ترجع أصل العائلة إلى مناطق من داخل المغرب، يذكر البعض الآخر على قدوم العائلة من أصول خارجية عربية قديمة ، وقال محمد أزرقان في مخطوطه بنفس الفكرة أي أن أصله من جزيرة العرب ، وهذا هو الرأي نفسه الذي تردده العائلة الخطابية وتناقلته عبر الأجيال وكما نقله الصحفي الفرنسي روجيه ماتيو على لسان محمد بن عبد الكريم قوله
"... ننتسب إلى السي محمد بن عبد الكريم الريفي .الحجازي الأصل وقد نشأ أجدادي في بلدة ينبع من أعمال الحجاز، غادرت عائلتي موطنها الحجاز وجاءت لتستوطن مراكش في القرن الثالث للهجرة، وأقامت بين أفراد قبيلة بني ورياغل وبذلك تكون البلاد الواقعة بين البحر وتارجيست هي موطننا منذ ألف عام"
المحيط العائلي والأسري
هو الفقيه السي عبد الكريم بن السي موحند بن السي عبد الكريم بن السي أحمد بن الريفي، تعتبر هذه الأسرة من الأسر الريفية القليلة التي توارثت المعرفة جيلا بعد آخر ، وهو ما تؤكده الرواية سواء تلك المتداولة بين أفراد العائلة أو تلك الشائعة في المحيط القبلي. وتدعمه بشكل أو بآخر كلمة السي التي تقترن بجل أسماء أجداد هذه العائلة، والتي تعبر عن العلم والمعرفة. ومما يرسخ هذا القول المهام التي أوكلت إلى أفراد هذه العائلة منذ منتصف القرن التاسع عشر على الأقل
فكان لسي عبد الكريم أخ يدعى السي محمد المنفوشة ذاع صيته كأحد العلماء النبهاء، فرغم حداثة سنه اختاره السلطان الحسن الأول لتعليم أبنائه داخل القصر السلطاني، وتقول الرواية العائلية
"... كان السي موحند لا يشق له غبار في الحفظ والذكاء، فقد حفظ القرآن بيسر وسهولة في منزل والديه، ولا أحد من الأقارب كان يدري أنه يقرأ القرآن لأنه كان يرعى بهائم أبيه، التي يسوقفها في الصباح إلى حيث ترتاع رفقة أقرانه الرعاة، ويحتطب ويعود في العشي إلى بيته ثم يأخذ في استظهار القرآن الكريم رفقة أخيه عبد الكريم الذي كان يتمرد أحيانا لشغفه الكبير باللعب والتسلية، وكان أبوهما يوميا يحرر ربع حزب فيستظهره بصوت منخفض ثم لا يلبث أن يكتفي بإمعان النظر في اللوح، وكلما زاد له والده قدرا من الآيات على القدر المألوف إلا وتلقفه بارتياح إلى أن صار والده السي محند يملأ له لوحه من جهتين فيستظهره ليلا، وفي نفس الوقت يضبط رسم كل كلمة بأوضاعها الكتابية دون أن يفقه لذلك معنى، وهذا النابغة تاقت نفسه لقراءة السبع، فاستظهرها بسهولة، بدأها على والده الذي لم يكن يحفظ إلا روايتين وأضاف إليها العشر بفاس وذلك حينما استقر بها للدراسة والتثقيف في العلوم المتداولة، وذاع صيته فاستدعاه السلطان لتعليم أولاده....إلا أنه ضاق ذرعا بذلك لأنه ألف التقشف في الملبس والمسكن، فهو يسكن في المدرسة كغيره من الطلاب وينام وسيتيقظ وقت شاء، ولم يطق صبرا واحتمالا لحضور سائق بغلة ليركبها إلى القصر والسائس بجانبه، ثم لا ندري ما كان بعد هذه الوضعية، إلى أن أصبح ذات يوم ميتا بدون مرض سابق في فراشه بالمدرسة ولما علم أخوه عبد الكريم بموته توجه إلى فاس زائرا لضريحه، وآخذا لما سلم من أيدي المتسللين..."
إضافة إلى السي محند كان لعبد الكريم عم يدعى السي زيان كان هو الآخر على مستوى كبير من المعرفة والدراية، وعينه المولى الحسن قائدا على أيث يوسف وعلي، وتشهد الوثائق الرسمية بنشاطه وأعماله ، وقد عاصر أحدهما الآخر لفترة وجيزة أي البداية المهنية للقاضي عبد الكريم ونهاية عمر السي زيان
هذه الإشارات السابقة تعمدنا الوقوف عليها للتنصيص والتأكيد على المستوى العلمي لهذه العائلة ولمدى تفتحها ودرايتها لمحيطيها، القبلي القريب وكذا الوطني الذي رسخه انتقال العائلة للعيش في حواضر المغرب
شخصية القاضي عبد الكريم الريفي
بداية يجب التذكير بأن المادة المقدمة هنا بشأن شباب وتكون الفقيه عبد الكريم معظمها مستقى من الرواية الشفوية التي تناقلتها مختلف أجيال هذه العائلة، وتبقى المصادر المكتوبة شحيحة حول هذه النقطة نظرا لغياب تاريخ اجتماعي ووثائق مختلفة كفيلة لكشف عدد من النقط الغامضة المجهولة من تاريخنا
ازداد الفقيه بمدشر أجداده أجدير حوالي سنة 1860، وبها حفظ القرآن وتلقى مبادئ العلوم الشرعية كالنحو والفقه والفرائض على يد والده الفقيه المفتي السي محند. تقول الرواية الشفوية العائلية أن الفقيه أثناء شبابه كان قوى العضلات، كثير الحركة ، يتمتع هو الآخر كأفراد عائلته ولو بنوع من التفاوت بقوة الذاكرة والذكاء الوقاد، خاصة في المجال الاجتماعي، وكان له ميل إلى الشغب مع أقرانه، فأشار عليه أبوه السي محند بمغادرة أجدير والذهاب إلى فاس لاستكمال علمه، فوافق على مقترح والده، الذي زوده بما يتطلب الأمر من المصاريف. وبعد أن زوده بلباس مناسب نصحه باستعماله حالما يصل إلى فاس، وبها يدخل القرويين لكي يحظى باحترام الجميع بمن فيهم الفقهاء والعلماء، وأكد عليه أن يكون متزنا
ورغم الذكاء والفطنة اللتان تميزانه إلا أنه لم يستطع في بداية إقامته بفاس وجلوسه في حلقات العلماء من إدراك كل ما يلقى من دروس في القرويين، وأصبح ينتقل من حلقة إلى أخرى بحثا عن ضالته إلى أن انتهى به الأمر إلى حلقة الفقيه كنون، ومنذ ذلك الحين وعلى يده بدأ يدرك المعاني ويستوعبها، وما كان منه إلا أن بدأ في مجالسته بالإضافة إلى العلماء الآخرين. ويضيف الفقيه عبد الكريم قائلا، بعد مدة من إقامتي بفاس عزمت الرجوع إلى أجدير حيث أهلي، فأشعرت الفقيه كنون، وقال لي إذهب فقد نلت المرغوب، ولما كان استقراري بمدشري أجدير أخذت أكتب الوثائق العدلية والتعاملية، ثم أصبحت فيما بعد قاضيا بظهير مولوي، ولم يكن هذا الظهير بطلب من الفقيه بل بعث له كما حدث لخاله وصهره السي أحمد القاضي اللذان أصبحا قاضيان يشتغلان بصفة رسمية
عبد الكريم بين الفقه والقضاء
عندما عاد الفقيه عبد الكريم إلى بلده انخرط في نشاطه وعمله بين ذويه كمستشار ومرجع في الأمور والأحكام الشرعية المرتبطة بالعبادات والمعاملات، وبطبيعة الحال لم يكن عبد الكريم الفقيه الوحيد في الناحية بل كان غيره من الفقهاء يمارسون أنشطتهم الاعتيادية. إذا كان هذا الأمر مؤكدا وغير قابل للنقاش فإن مسألة الانتقال من مهام الفقيه إلى مستوى القضاء ليس بالأمر الهين واليسير الذي لا يتيسر للجميع عكس ما قد يعتقد البعض.
فإلى أي حد يمكن الوثوق والاتفاق مع القول بأن التكليف بمهمة القضاء منح لعبد الكريم دون أن يسعي نحوها؟
أشارت الكاتبة الاسبانية ماريا روزا دي مادارياكا في معرض حديثها عن الدوافع التي دفعت السلطان الحسن الأول لاختيار الفقيه، إلى أن ذلك راجع بالأساس إلى الحظوة والمكانة التين كانتا له بين قومه بالإضافة إلى سمعته ومعرفته. ارتباطا بنفس الفكرة وتفسيرا لموقف المخزن نعتقد أن ذلك القرار جاء في سياق أحداث وطنية داخلية اقتضت إجراءات عملية شاملة، ويرجع ذلك بالأساس إلى رغبة المخزن بتجاوز مخلفات حرب تطوان 1860 وانعكاساتها السلبية على المستويات الاقتصادية السياسية الاجتماعية ومن ثم سعي الحسن الأول جاهدا لاسترجاع هيبة المخزن والدولة وتحقيق الوحدة الوطنية وبسط نفوذ الدولة / المخزن على ربوع المغرب بأسره، عبر خلق تمثيليات وامتدادات له في عموم المناطق. وقد عرفت القبيلة الورياغلية زمن الحسن الأول أكثر من قائد محلي، أحدهما عم عبد الكريم وهو السي زيان على أيث يوسف وعلي والآخر القائد حدو على أيث علي، واستكمل المخزن حضوره بتعيين قاض شاب طموح لم يكن إلا قريب القائد السي زيان ألا وهو الفقيه السي عبد الكريم
كانت رسالة التعيين لمنصب القضاء من طرف الحسن الأول بتاريخ: 08 يونيو 1880
بتاريخ 09 ماي 1883 توصل برسالة أخرى تفيد الاحتفاظ به بنفس المنصب
16 دجنبر 1906 يتوصل الفقيه بظهير تولية من السلطان عبد العزيز
04 فبراير 1907 رسالة أخرى من نفس السلطان تعينه أمينا على القبيلة كوسيط بينها وبين المخزن
يوليوز 1908 رسالة موجهة لقبيلة أيث ورياغل وقاضيها الفقيد عبد الكريم كجواب على نصرتهم له كسلطان
19 شتنبر 1908 / 31 اكتوبر 1908 رسالة جوابية من السلطان عن خبر دخول القبائل الريفية تحت سلطة المخزن
الوثائق التي تحمل اسم وتوقيع القاضي عبد الكريم
وحتى يتبين لنا بالملموس صحة ممارسة القاضي عبد الكريم لمهامه، نورد سلسلة من الوثائق العائلية التي تحمل اسم وتوقيع الفقيه وهي بالترتيب حسب الأقدمية
تاريخ الوثيقة: 12 مارس 1894
تاريخ الوثيقة: 14 نونبر 1894
تاريخ الوثيقة: 22 غشت 1895
تاريخ الوثيقة: 12 يونيو 1896
تاريخ الوثيقة: 14 يونيو 1900
تاريخ الوثيقة: 16 يناير 1901
تاريخ الوثيقة: 18 يوليوز 1901
تاريخ الوثيقة: 19 فبراير 1902
تاريخ الوثيقة: 19 ماي 1906
تاريخ الوثيقة: 28 نونبر 1906
تاريخ الوثيقة: 25 غشت 1909
تاريخ الوثيقة: 28 نونبر 1909
تاريخ الوثيقة: 11 ماي 1913
تاريخ الوثيقة: 07 يناير 1920
وتكون الوثيقة الأخيرة التي أنهينا بها سلسلة الوثائق التي قدمناها، من بين آخر الوثائق التي حررها أو وقعها القاضي عبد الكريم، ففي شهر غشت من نفس السنة أي 1920 انتقل الفقيه إلى عفو الله
نماذج من المواقف السياسية للفقيه القاضي
الموقف من بوحمارة
يعتبر الدعي بوحمارة أحد أخطر العناصر التي ناوأت السلطة المخزنية في العقد الأول من القرن العشرين، بل وساعدت في التعجيل بزوال سيادته، وقد استغلت هذه الشخصية ضعف الدولة المغربية لتقوم بتهييج القبائل الواقعة ناحية تازة وفاس بانتحال صفة ابن المولى الحسن الأول المسمى مولاي امحمد والذي يعتبر السلطان الشرعي الأحق بالملك، وبفضل الدعم الأجنبي استطاع بوحمارة أن يصول ويجول لمدة تقارب 7 سنوات متنقلا بين القبائل المتواجدة ناحية تازة ، واستقر به الحال إلى قصبة سلوان ناحية الناظور، وقد عجز المخزن عن محاربته والقضاء عليه ، لكن الورياغليون تمكنوا من هزمه في أكتوبر 1908 بسهل انكور
وتؤكد العديد من المراجع التاريخية في الموضوع على الدور الفعال الذي قام به الفقيه عبد الكريم في التحضير العسكري والاستعداد النفسي والدعائي التحريضي لمقاومة بوحمارة ، ويتحفظ جرمان عياش حول موقف الفقيه عبد الكريم معتمدا في ذلك على ما ذهب إليه الكاتب العسكري الاسباني مالدونادو الذي قال بهذا الرأي، ويدعم عياش موقفه هذا منطلقا من الرسالة المخزنية التي وجهها إليه السلطان المولى عبد الحفيظ بتاريخ: 29 دجنبر 1908 وفيها نعلم أنه قدم تقريرا أمام إخوانه عن موقفه، وأنه فرضت عليه عقوبة على شكل غرامة
بطبيعة الحال لا يمكن إصدار أحكام نهائية ومطلقة حول موقف الفقيه خلال تلك المرحلة العصيبة من تاريخ الريف والمغرب، إلا أننا نرجح القول الأول بالمشاركة الفعالة في محاربة الدعي بوحمارة، ولعل الأهازيج المحلية (إيزران ) أو كما يسميها الأستاذ عمر الصابري المرددات العفوية، تؤكد مشاركته الفعلية
ونحن إذ نقدمها هنا يجب أن نعي جميعا قيمتها التاريخية كتراث فني ملحمي يؤرخ لأحداث حقيقية لا غنى للباحث عنها في أية محاولة تروم إعادة كتابة تاريخ المنطقة والمغرب بصفة عامة
تقول هذه المقاطع
أشدي أوجذير أيزم نروضا افرق أوقرطاس أو عبد الله ذو حذيفة السي عبد الكريم قاذوماس جماعث الفهما السي محند أوعزوز كفراون إفنى
الموقف من الصراع الألماني / الفرنسي
بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى وانضمام تركيا إلى جانب الألمان، انطلقت الدعاية الألمانية داخل البلدان الإسلامية ومنها المغرب، وتحديدا في الجزء الشمالي منه تدعو إلى نصرة السلطان التركي حليف الألمان، وقد استغل الألمان توفرهم على تمثيليات دبلوماسية ومراكز تجارية في جل مدن الشمال بما فيها سبتة ومليلية للاتصال بالعديد من الأشخاص ذوي المكانة الوازنة اجتماعيا، وكان أول من اتصل به الألمان في إسبانيا السلطان الأسبق المولى عبد الحفيظ ليربط لهم جسور الاتصال مع عناصر داخل المغرب
وكان الفقيه القاضي عبد الكريم الشخص الريفي الذي اتجهت صوبه أنظار الألمان ليقوم بدعمهم من الريف الأوسط. وفعلا قام هذا الأخير بالتنسيق مع عبد المالك محي الدين الذي استقر بمنطقة قبائل تازة على تنظيم هجومات ضد المراكز الفرنسية
إذا كانت الشعارات التي اعتمدت عليها الدعاية الألمانية قد هيجت العديد من الريفيين الذين قادهم حماسهم واندفاعهم باسم الجهاد، أو أولئك الذين حمستهم القطع النقدية التي كانت تمنح للمقاتلين كأجرة يومية، فإن معظم الريفيين الذين لم يكونوا ينظرون بعين الرضا لهذه المغامرة الجديدة، فالإسبان في جهة الشرق أولى بالمواجهة والقتال مقارنة مع الفرنسيين البعيدين على الريف، فكيف يفسر موقف الفقيه القاضي عبد الكريم وهو من النخبة المتعلمة والعارفة بخبايا الأمور وأبعادها؟ هل تحرك لمجرد وازعه الديني الأخلاقي؟ أم أن الأمر أعقد مما نتصور؟ لقد كان الفقيه واعيا بألاعيب الأسبان ومشاريعهم التوسعية فهو من جانب أراد أن يستقوي عليهم بتهييئ نفسه كمفاوض قوي مستقبلا بكسب الأصدقاء والأتباع ومن ذلك إشرافه على التعبئة واستقطاب المقاتلين ومساعدة عبد المالك، كما أن دعم الألمان المؤازرين من طرف الأتراك المسلمين ينم عند رغبة نفسية وحماسية في نصرة الإسلام، إلا أن أهم الجوانب الخفية في الموضوع هي تلك المرتبطة بعلاقات الفقيه مع الألمان والشركات الألمانية وعلى رأسها Mannesmann، وقد كانت هذه الأخيرة تربط علاقات بكل من الأب عبد الكريم وابنه بمليلية للوصول إلى اتفاق للبحث عن المعادلة داخل الريف بموافقة ودعم من العناصر الأسبان الممتلكين للشركات المعدنية، وفي إطار مشروع سياسي مستقبلي
ألم تكن تلك الأحداث والوقائع من الأسباب التي أدت إلى اعتقال ابنه محمد بمليلية في شتمبر 1915 والتي استمرت إلى غاية غشت من سنة 1916 . كان اعتقال ابنه القاضي بمليلية يعبر عن موقف سياسي عدائي اتجاه آل الخطابي الذين وإن كانوا يلعبون سياسة شد الحبل من طرفهم وطرفه كذلك، إلا أنهم لم يصلوا إلى هذا الحد من العداء
لقد عبر الابن البكر أثناء استنطاقه من قبل الإسبان صراحة على مواقفه العدائية ضد الفرنسيين بل وعلى رغبة الريفيين في توقف الاحتلال الأسباني في حدود المناطق التي احتلتها آنذاك...إلخ
ورغم التحاق ابنه بمليلية في 15 مارس سنة 1917، والتعويض والترقية التي منحتا له والمنحة الدراسية التي أعطيت لابنه الأصغر امحمد، فإن عبد الكريم انتظر كثيرا أن تتغير السياسة الإسبانية تجاه الريف وتعترف بمخاطبها إلا أنها أبت أن تراجع نفسها، وانتظر الفقيه إلى حدود أواسط دجمبر 1918 حين وصل ابنه محمد إلى أجدير ولم يعد بعدها إلى مليلية وكذلك فعل الابن الأصغر في منتصف يناير 1919 وكان أن توقف الفقيه عبد الكريم كلية عن ممارسة أي نشاط سياسي رغم محاولات الإسبان العديدة لثنيه عن رأيه واسترجاع جسور الثقة بينهما، إلا أنه بقي مصرا على موقفه خاصة بعدما تأكد لديه اليقين من عزم الإسبان الاحتلال المباشر للريف دون مراعاة لشعور أبنائه
وبعد استنفاذ كل سبل الإغراء والاستمالة اضطر الاسبان إلى نهج أسلوب التصفية، فأوعزوا إلى من يدس له السم، وهكذا أسلم الروح بتاريخ 07 غشت 1920
الهوامش
اللوه ص 248- عبد الله كنون ص 18- أزرقان، الضلال الوريف في محاربة الريف ص 54- جرمان عياش، أصول حرب الريف ص 162
Juan Pando , p 32 – Maria Rosa Madariaga , p 342 - Jacques Ladreit de la charrière , p 88 .
جرمان عياش، مرجع سابق ص 194
(4) دافيد هارت ص40 – أنظر كذلك كتاب دافيد وولمان ص 75
(5) محمد طحطح ص 65
(6) تاريخ المغرب ج 3 ص 160 البوعياشي، حرب الريف ومراحل النضال ج1 ص 447
( اللوه ، المنهال في كفاح أبطال الشمال ص 248
(9) مجلة أمل، العدد 12 صفحة 52
(10) عبد الله كنون، مرجع سابق نفس الصفحة
(11) أزرقان، الظل الوريف في محاربة الريف ص 54
(12) روجيه ماتيو – ترجمة عمر أبو النصر، مذكرات الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي ص 41
(13) محمد أزرقان، مرجع سابق ص 54
(14) أنظر الإتحاف وأعلام الناس بجمال حاضرة مكناس، الجزء الثاني ص 346
ماريا روزا ذي مادرياكا ص 34
(16) من هذه المراجع نذكر كتاب أسد الريف لمحمد عمر القاضي وحرب الريف ومراحل النضال للبوعياشي ص 164 وكتاب للباحثة الإسبانية ماريا روزا دي ماذرياكا
(17) جلال عيسى، المغرب الكبير ج4 ص 126
(18) جرمان عياش، مرجع سابق ص 236
لؤي الريفي
المملكة العربية السعودية