الدعوة إلى ثقافة التنمية
ج2
بقلم/التجاني بولعوالي
باحث مغربي مقيم بهولندا
www.tijaniboulaouali.nl
ج2
بقلم/التجاني بولعوالي
باحث مغربي مقيم بهولندا
www.tijaniboulaouali.nl
زرع ثقافة التنمية لدى الجميع
إن مصطلح التنمية هو المقابل الأنسب لمصطلح التهميش، وكما رأينا فالتهميش يتخذ أبعادا متنوعة، قد تتمثل في الفقر، أو التخلف، أو الاستعباد، أو التبعية، أو غير ذلك، وغالبا ما كان هذا التهميش نتيجة للسياسة المنحرفة التي كانت تمارسها أجهزة الدولة، بمعنى أنه في الأصل غير مترتب عن عجز ذاتي، وإنما مقحم مما هو خارجي وفوقي، حتى أنه كان في الماضي القريب، لا يسمح للإنسان العادي أن يفكر في خدمة واقعه، وبالأحرى أن ينزل إلى الشارع للدعوة العملية والميدانية إلى التنمية، إذ كان مجال المجتمع المدني ضيقا ومحاصرا، أما الآن وقد تغيرت تلك الرؤية، ولو نسبيا، فإن من حق أي مواطن أن يشارك من خلال مؤسسات المجتمع المدني في تنمية، ولو محيطه المحلي الضيق، كالحي، والمدرسة، والشارع... ما لم يتعارض ذلك مع القوانين الرسمية المنظمة لذلك الشأن، مما يعني أنه أصبحت ثمة فسحة للمشاركة والعمل وخدمة الصالح العام. وأي إسهام من هذا النوع، قد يندرج في نطاق العمل التنموي، الذي يسع لكل الحقول والمجالات، من ثقافة وتعليم وصناعة ورياضة وفلاحة وترفيه، وغير ذلك.
على هذا الأساس، فإنه أصبح من الإمكان الحديث عن ثقافة جديدة، وهي ثقافة التنمية، التي تستند إلى مجموعة من الدعامات، ويتحدد أهمها في:
تعميم الوعي اللازم: ويقصد بذلك أنه ينبغي أن تعمم ثقافة التنمية بين جميع مكونات المجتمع، وعلى مختلف المستويات والصُّعُد، ويشارك في تنفيذ هذه المهمة الكل، بدءا من أصحاب القرار، مرورا برجال التعليم، وصولا إلى الفاعلين الجمعويين، على أن يعتبر هؤلاء كلهم أجمعون أن لا مخرج من الأزمة التي يتخبط فيها الواقع الوطني المغربي عامة، والمحلي الريفي خاصة، إلا بالتنمية المنظمة والشاملة، وهذه التنمية المنشودة لا تحصل فجأة، أو في لمح البصر، وإنما تتحقق عبر أطوار مختلفة، أهمها توعية جميع شرائح المجتمع بمدى أهميتها القصوى، وحاجتنا الملحة إليها، وهذه التوعية تتم عبر مختلف الآليات التواصلية، من تعليم وإعلام وتنشيط وترفيه، ونحو ذلك.
مسؤولية الجميع: التنمية لم تعد مسؤولية طرف معين دون الآخر أو الآخرين؛ التنمية ليست مسؤولية الدولة وحدها، ولا المدرسة وحدها، ولا المثقفين وحدهم، ولا الأئمة والعلماء وحدهم، ولا المجتمع المدني وحده... التنمية أصبحت في العصر الحديث مسؤولية الجميع، وقد أدركت كبريات المؤسسات الدولية المؤثرة (منظمة الأمم المتحدة، صندوق النقد الدولي، البنك الدولي...) أن سر فشل مشاريع التنمية التي تبنتها عبر عقود ما بعد الاستقلال في الكثير من دول العالم الثالث، يتعين في تغييب مؤسسات المجتمع المدني، وعدم إشراك المواطنين في تلك المشاريع التنموية! ثم إن مختلف دول العالم النامية، بما في ذلك المغرب، أصبحت تدرك قيمة المجتمع المدني ودوره الفعال في دعم مشاريع التنمية المحلية والوطنية، مما جعل الدولة تطلق من حين لآخر مبادرات جادة، تسعى من خلالها إلى تحسيس مؤسسات المجتمع المدني وجمعياته بأهمية ما تنظمه من أنشطة، وما تقدمه من أفكار واستراتيجيات، وما تقوم به من مشاريع وأوراش. مثل المبادرة الوطنية للتنمية التي بدأت في 2005، ومسلسل تأهيل الجمعيات الذي أطلقته وزارة التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن في 2008، وسوف تستفيد منه حوالي 2000 جمعية خلال عام 2008، وشراكة المعهد الملكي للثقافية الأمازيغية مع الجمعيات الوطنية العاملة في مجال النهوض باللغة والثقافة الأمازيغيتين. وما إلى ذلك من المبادرات.
العمل التطوعي: إن ما نعهده دوما أن مشاريع التنمية تتطلب ميزانيات ضخمة تعد بالملايين أو المليارات من الدولارات، لذلك فلزام على كل من يفكر في أي مشروع تنموي أن يتوجه إلى المؤسسات البنكية الكبيرة والمؤثرة، التي قد تمول ذلك المشروع، هذا ما حصل مع مختلف دول العالم الثالث، التي استنجدت بالأبناك الدولية لتمويل مشاريعها التنموية، التي راهنت عليها طوال عقود ما بعد الاستقلال، غير أنها سوف تجد نفسها فيما بعد مغرقة في الديون، دون أن تحقق ما قد كانت سطرته أو سطر لها من مشاريع وأوراش! والمرجع الأساس في ذلك، إلى هيمنة العقلية التي ترى أن المال لا يأتي إلا بالمال، وأن التنمية لا تتحقق إلا بالأموال الوافرة، وقد تشربت هذه الأفكار مختلف أجيال العالم الثالثي، التي تربت على مثل هذه الأفكار والقيم الغثة، مما ضخم في عيونها وأذهانها مفهوم التنمية، الذي له وقع لا يقاوم! لا سيما في حديث السياسة والإعلام. في حين أن التنمية في حقيقتها ممارسة عادية، لا تقتضي هذا التضخيم كله، فهي تتخذ مستويات متنوعة، حسب إمكانات كل فاعل تنموي المادية والفكرية والتنظيمية، إذ أن بمستطاع الجميع الانخراط في هذه الممارسة، بالكيفية التي يقدر عليها، سواء أكان أميا أم متعلما، فقيرا أم غنيا، ذكرا أم أنثى، فردا أم جماعة...
بعبارة أوضح، إن التنمية تفشل كلما طغى الهاجس المادي على فاعليها، وتنجح كلما حضر الهاجس التطوعي بكثافة وقوة، وهذا ما توصلت إليه مختلف التقارير الدولية، التي راحت تركز على أهمية المجتمع المدني، وأهمية إشراك المواطنين. ثم إن التنمية لا ينبغي أن تختزل فقط في المشاريع الضخمة والعملاقة، التي تتطلب ميزانيات هائلة، قد ترهق كاهل الدولة، وتستنزف طاقات وخيرات الأمة، وإنما ينبغي التفكير بجدية في الأوراش الصغيرة والأنشطة العادية، التي قد تؤتي أكلها في الحين، وبتكاليف منخفضة وأحيانا رمزية، وهذا ما تقوم به العديد من الجمعيات المغمورة، التي توجد في المدن المهمشة والقرى النائية والأحياء المنعزلة، إذ أنها من اللا شيء تصنع الأشياء الكثيرة، فمنها من يساهم في التنمية الثقافية والتعليمية من خلال دروس محو الأمية والتقوية والحملات التوعوية، ومنها من يساهم في التنمية الفلاحية من خلال تأسيس الجمعيات المتعددة الاهتمامات (الحليب، النحل، الزيتون...)، ومنها من يساهم في التنمية الرياضية، والتنمية البيئية (النظافة، محاربة أسباب الحرائق...)، والتنمية الاجتماعية، وغير ذلك.
المشاركة/الإسهام: بمجرد ما سوف ينتشر الوعي بثقافة التنمية، باعتبارها المخرج الناجع لواقعنا المتردي، من شتى المعضلات والمآزق التي يتخبط فيها، ثم يدرك الكل أن تنمية المجتمع، إنما هي مسؤولية الجميع، سلطة ومثقفين وشعبا، وأن التنمية الحقيقية والمثمرة لا تتم إلا من خلال مؤسسات المجتمع المدني، مما يعني أن كل مواطن ملزم بأن يتطوع بقسط من وقته أو جهده أو ماله، للمساهمة في تنمية المجتمع الذي يحضنه، هكذا فإنه لا محالة سوف تنشأ لدى الأغلبية العظمى من مكونات مجتمعنا قابلية المشاركة العفوية والفورية في مخطط التنمية الحقيقية، الذي لا يرتهن بالسياسات الحكومية التسويفية، ولا بالإملاءات الدولية المعقدة، فلا هو مخطط خماسي ولا سداسي ولا عشري، وإنما يظل مفتوحا على مصراعيه للمستقبل، إذ الجميع يتمتع بحق الإسهام فيه، كل حسب طاقته، وكل انطلاقا من مقامه.
الإحساس بالمواطنة: إن ثقافة التنمية كما هي مطروحة في العناصر السالفة الذكر، تجعل الإنسان أكثر تعلقا بوطنه، ليس على المستوى الشكلي والرمزي فحسب، وإنما أيضا على صعيد العمل والعطاء والإسهام.
إن مفهوم الوطن عادة ما يقصد به الانتماء إلى المكان الذي هو مسقط رأس الإنسان، أما مفهوم المواطنة فهو يضيف إلى ذلك الانتماء الشعور بالتعلق النفسي بالوطن وبمختلف مكوناته التاريخية والثقافية واللغوية والاجتماعية، أكثر من غيره من الأماكن. غير أن هذا المفهوم يهيمن عليه البعد النظري والمعنوي، خصوصا وأن أي إنسان يمكن أن يدعي المواطنة أو الوطنية قولا، لكنه على المستوى العملي لا يقدم أي شيء للوطن، لذلك أعتقد شخصيا أن مفهوم المواطنة لا يكتمل إلا بحضور الجانب العملي فيه، بمعنى أن ذلك التعلق بالوطن ينبغي أن يترجم إلى أفعال وإنجازات وتضحيات على صعيد الواقع. ولا يتم ذلك في الغالب الأعم إلا من خلال انخراط المواطنين في مؤسسات المجتمع المدني، وخدمة مختلف قضايا الوطن، ولا يقصد بهذه الخدمة، الخضوع إلى السياسات الرسمية والحكومية، بل وإن مواجهة بعض خروقها، والكفاح ضد جوانبها المنحرفة والفاسدة، يندرج في نطاق المواطنة وخدمة الوطن، لا سيما عندما تكون أهداف المناضلين شريفة؛ غير مؤدلجة، وغير انتهازية، لأنه من خلال ذلك النضال تقدم خدمات جليلة للوطن، في شتى المجالات الحقوقية والثقافية والاجتماعية والتنموية...
إن ثقافة التنمية بالصيغة التي ندعو إليها، وهي صيغة مبسطة، وفي متناول جميع شرائح المجتمع وجمعياته ومؤسساته، من شأنها أن تجعل الجميع على وعي تام بأهمية هذه الثقافة، فيدرك المسؤولية المنوطة به، فيتذوق عسيلة العمل التطوعي، ويهرع للمشاركة والإسهام، بل وأهم من ذلك كله، يكتشف أنه بهذا النوع من العمل التنموي، يصبح أكثر تعلقا بالمكان، كما الجذور التي تتغذى من التربة، وفي الوقت ذاته تتأصل في عمق الأرض، لتقويها وتمتنها فتجعلها أكثر مواجهة لظواهر التعرية والتصحر!
خلاصة القول..
حتى لا يظل هذا الكلام حبيس ما هو نظري، وتوضيحا لكل من قد يتساءل عن مدى تنزيل هذه الأفكار على مستوى الواقع، وكيفية تطبيق ثقافة التنمية ميدانيا، أشير إلى أنه يمكن على المستوى المحلي أن نبدأ بالجوانب المتاحة لنا، وقد بدأ بها الكثير من الفاعلين الجمعويين، غير أن هذه البداية تحتاج إلى أمرين، وهما: التوجيه الصحيح، والاستمرارية، لأنه ما أكثر المشاريع والأفكار التي تطرح، غير أنها، إما تتوقف، أو لا تفعل. وهذه الجوانب المتاحة لا تخفى عن أحد من الفاعلين المدنيين والمثقفين والإعلاميين، ورغم أنها تبدو عادية وبسيطة، إلا أن تأثيرها عميق، وتجدر الإشارة في هذه الخلاصة، إلى التنمية التعليمية من خلال تنظيم دروس محو الأمية، ودروس التقوية للتلاميذ الضعاف، ومساعدة التلاميذ الفقراء بالكتب والأدوات المدرسية، وإلى التنمية الرياضية من خلال تنظيم التظاهرات الرياضية المتنوعة، والبحث عن الطاقات الرياضية الواعدة وتوجيهها التوجيه الصحيح، وزرع حب الرياضة من خلال الحملات التطوعية الجماعية، وإلى التنمية البيئية من خلال تعميم ثقافة الحفاظ على البيئة، وتنظيم حملات النظافة، وتخصيص تدريبات لذلك في المدارس والجمعيات والمساجد، وإلى التنمية الاجتماعية من خلال الدعوة إلى التحلي بالأخلاق الحميدة، ونشر ثقافة المعاملة الحسنة، والتربية الصحية، ومحاربة مظاهر العنف المنزلي، وزيارة المستشفيات ودور الأيتام والداخليات، وغير ذلك من أنواع التنمية التي لا يلتفت إليها الكثيرون، ويستخف منها الآخرون الذين يرون أنها لا تمت بصلة إلى ما هو ثقافي، ويتغاضى عنها البعض، الذي يحسب أن التنمية تتعلق بالمشاريع الكبرى التي تتطلب الميزانيات الهائلة والضخمة... في حين أن التنمية الحقيقية هي التي لا تستثمر الإنسان، وإنما تستثمر في الإنسان ومحيطه الطبيعي، من خلال العناية التلقائية المباشرة بمشاكله اليومية، خارج أسوار المساطر القانونية، والمخططات المتنوعة، والميزانيات الضخمة.