الدعوة إلى ثقافة التنمية
ج1
بقلم/التجاني بولعوالي
باحث مغربي مقيم بهولندا
www.tijaniboulaouali.nl
سوف أقتصر في هذه الورقة على مفهوم التنمية في ارتباطها بالواقع المحلي، ثم كيفية زرع ثقافة التنمية بين مختلف شرائح المجتمع، التي باكتسابها للوعي اللازم بهذا المفهوم ذي البعد الاستراتيجي، سوف تساهم لا محالة من موقعها في وضع لبنة ما في صرح التنمية، التي صارت الأمم المعاصرة تراهن عليها، وترى في تحقيقها أهم ضامن لاستمرارها وصمودها وتأثيرها.
تجمع الكثير من الدراسات التي تناولت قضية التنمية، على أنه بتحقيق هذا المطمح، يتم القضاء ولو النسبي على الفقر، وسد الفجوة سواء بين الدول الغنية والدول النامية، أم بين الأغنياء والفقراء على الصعيد الوطني والعالمي، والتحرر من إسار التبعية، ونحو ذلك. وهذه المقاصد كلها، على اختلاف أصنافها، يمكن إدراجها في مقصد جامع، وهو أن التنمية تسعى إلى تحرير المجتمع من آفة التهميش، والتهميش مفهوم موسع، يشمل الإقصاء والفقر والاستعباد والتخلف والتبعية وانتهاك حقوق الإنسان، وما إلى ذلك، لذلك يمكن اعتباره يتضاد ومفهوم التنمية، فما المقصود بهذين المصطلحين المحوريين في حركة كل مجتمع سواء نحو خيار التخلف، أم إلى خيار التقدم؟
مفهوم التنمية
إن الاقتصاديين يكثرون من استعمال عبارة التنمية، التي يقصدون بها رفع مستوى الدخل القومي بزيادة متوسط إنتاج الفرد، لكن هذه العبارة لم تبق محصورة في المجال الاقتصادي، بقدر ما نزحت نحو أغلب حقول العلوم والمعارف الإنسانية، فيطلق على أية طريقة تستهدف تحسين وضعية ما أو تطويرها، من حالة الرداءة إلى حال الجودة والعطاء تنمية، التي يعبر عنها في المعاجم اللغوية بتكثير الشيء وزيادته؛ فتنمية النار في إشباع وقودها، وتنمية التجارة في رفع أرباحها ورأسمالها، وتنمية الجوار في تطوير العلاقات فيما بين الدول المجاورة، وهكذا دواليك.
وقد تناول د. إبراهيم العيسوي قضية التنمية في كتابه (التنمية في عالم متغير)، حيث تعرض إلى التطور التاريخي لهذا المصطلح، يقول: "إذا تتبعنا تطور مفاهيم التخلف والتنمية، فسوف نجد أنها قد مالت في أول الأمر إلى التركيز على جانب النمو الاقتصادي وما يتحقق فيه من إنجاز. فقد كان التعريف الشائع للبلدان النامية منذ أواخر الأربعينات حتى أواخر الستينات أنها البلدان التي ينخفض فيها مستوى الدخل الفردي كثيرا بالقياس إلى مستواه المتحقق في البلدان المتقدمة. وعرفت التنمية بأنها الزيادة السريعة والمستمرة في مستوى الدخل الفردي عبر الزمن". ص 13 إلا أنه سوف يكتشف بأن هذا المفهوم الذي يختزل التنمية في مجرد النمو الاقتصادي السريع، ضيق وغير صائب، لأن ثمة بلدانا نامية عديدة، كما يستخلص الباحث، حققت معدلات نمو للدخل القومي قريبة من المعدل الذي حدده خبراء التنمية، غير أنها بقيت مستويات المعيشة بها متردية، وظلت الكثير من قطاعاتها تتخبط في الفقر والجهل والمرض والتخلف، ص 14 على هذا الأساس، فإن مفهوم التنمية سوف يحافظ على البعد الاقتصادي، وفي الوقت ذاته يضيف إليه أبعادا متعددة، وهكذا فإن خبرة الخمسينات والستينات سوف تساعد "على صقل المفهوم الأوسع للتنمية، بتحجيم دور العنصر الاقتصادي في مفهوم التنمية (أي النمو الاقتصادي)، وبإبراز دور الجوانب المؤسسية والهيكلية والثقافية والسياسية". ص 17
مفهوم التهميش
يعنى بكلمة التهميش الترك أو التقليل من قيمة الشيء، فقد اكتسبت دلالات متنوعة؛ إذ تعني هيمنة الدولة واستعباد الرعية عن طريق الاستحواذ عن ممتلكاتها، مادية كانت كالأرض والبدن وسائر المنتوجات وغير ذلك، أم معنوية كالرأي والفكر ونحو ذلك، فهي تقلل بذلك من قيمة الرعية! أو تشير إلى إقرار نفوذ مجموعة من المستحوذين وإقصاء الآخر من بنية المجتمع المدني، أو تدل على العمل على حضور نمط معين من الفكر أو التراث أو الإبداع أو التقاليد، وتغييب وترك أنماط أخرى وغيرها من الدلالات. وهذه الدلالات التي يوحي بها مصطلح التهميش، تتضاد ومعنى مصطلح التنمية، مما يجعلنا ننصب هذين المصطلحين (التهميش # التنمية) على طرفي نقيض، إذ أينما ساد التهميش، كانت التنمية غائبة أو مغيبة، وكلما انتهج أسلوب التنمية، تبددت آثار التهميش.
من هذا المنطلق، فإن مصطلح التهميش ينتصب ندا لند مع مصطلح التنمية، عوض مصطلحات الفقر أو التخلف أو الركود أو الاستعباد، أو نحو ذلك، فالتهميش يستوعب معاني تلك المصطلحات كلها، وهو لا يقع من تلقاء ذاته، وإنما تسببه عوامل خارجية شتى، قد تكون ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو تنظيمي، في حين أن الفقر آفة داخلية وذاتية ترتبط بالفرد قبل المجتمع، والتخلف نتيجة مشتركة لتقاعس الجميع، والركود يتولد عن الأزمة التي تعتري قطاعات الاقتصاد، من صناعة وتجارة وخدمات وفلاحة وملاحة، وغير ذلك، والاستعباد ممارسة غير ديمقراطية من قبل حاكم أو جهاز مستبد، وهذه التجليات وغيرها، يمكن أن تندرج كلها في دائرة التهميش الموسع، الذي عادة ما ينبعث من مصدر موحد، وهو السلطة أو المخزن أو كل ما هو فوقي، ليعتري بنتائجه الوخيمة شرائح أو مجالات متعددة.
من التهميش إلى التنمية
هكذا فإن التنمية بمفهومها المتطور تعتبر بديلا لآفة التهميش التي تأتي بويلاتها على الأخضر واليابس، ومن بين أهم تجليات هذا التهميش نجد، كما سبقت الإشارة، التخلف الذي أصبح حسب الباحثين ج. جازيس وج. دومينجو، "منذ ربع قرن تقريبا، حقيقة يومية، صارمة، ومتسلطة ومهيمنة، وكأنها التعبير الشائع عن سوء الأحوال العامة"، (ينظر كتابهما: دراسات في جغرافية التنمية، ص 20). وعندما نتأمل بنية مجتمعنا الريفي المحلي، ندرك أن هذه الحقيقة حاضرة فيه بقوة وكثافة؛ فالواقع الذي ننتظم فيه، بصراحة مرة وتامة، واقع يمكن نعته بالتخلف، الذي لا يقتصر على الحيثيات الخارجية الملموسة والمرئية للمدن والقرى، من بنى تحتية ومرافق عمومية وغير ذلك، وإنما يتجاوز ذلك إلى ما هو إداري وتنظيمي، حيث ترين مظاهر التخلف على مختلف أنواع الإدارات والمصالح والمؤسسات، سواء أكانت صحية أم تعليمية أم ثقافية أم سياسية أم إدارية، بل والأفظع من ذلك كله، أن التخلف يمتد بظلاله إلى جانب حساس في مجتمعنا المحلي، وهو الإنسان نفسه، الذي يتخبط في مستنقع الجهل والأمية والأنانية والتقوقع...
ونعني في هذا الشأن الإنسان بمفهومه العام المجرد، أما على الصعيد الواقعي والميداني، فيمكن أن نقسم المجتمع إلى أصناف من الناس، من أمي، ومتعلم مبتدئ، ومتعلم عادي، وحامل شهادة، ومثقف، وغير ذلك، ونستطيع أن نستخلص من هذه الأصناف كلها، فئة متقدمة تفكيرا وسلوكا ومشاركة، قد يحضر فيها الأمي، ويغيب منها المثقف أو خريج الجامعة، لأن التقدم لا يقاس بنسبة التمدرس فحسب، وإنما بحجم المشاركة البناءة والمعطاءة في المجتمع، فما أكثر المواطنين المتعلمين تعلما عاليا، غير أنهم لا يترجمون ذلك التعلم على مستوى الواقع الذي ينخرطون فيه، فهم سلبيون أكثر من الذين لم يحظوا بالتعليم، بل وأميون أكثر من الأميين العاديين!
إن التوقف عند التهميش الذي يلحق بالإنسان نفسه، لا يعني الحط من قيمة ذلك الإنسان أو الإساءة إليه، وإنما لأن الإنسان في خطاب التنمية الأخير المتطور، صار نتيجة التنمية وغايتها، لا أداتها ووسيلتها، كما كان سائدا في الماضي، إذ ظلت التنمية توظف الإنسان وجهده من أجل أهداف، قد لا يجني منها ذلك الإنسان إلا مزيدا من التعب والاستنزاف والاستعباد، كالاقتصاد الذي كان دوما غاية التنمية، فكان يسخر إنسان العالم الثالث لخدمة اقتصاد العالم الرأسمالي، أو خدمة مصالح البورجوازية المحلية، ويبقى هو بعيدا عن ثمار ذلك الاقتصاد ومكاسبه!
ثم إنه في الآونة الأخيرة نشأ وعي عالمي بأهمية إشراك الإنسان في أي مشروع تنموي، ليس إشراكا مبنيا على الاستغلال، وإنما على الأخذ والعطاء وتبادل المصالح، وعادة ما يتم ذلك الإشراك عبر مؤسسات وجمعيات المجتمع المدني، (ينظر مقالنا: المجتمع المدني؛ قراءة في النشأة والمفهوم)، ومن شأن فعل الإشراك هذا أن يقلص من التهميش الذي أقحم فيه الإنسان، محليا ووطنيا وعالميا، لأنه بإشراك الجميع في مشاريع التنمية المحتملة، نتمكن من تهيئ سياق صحي وملائم لغراس التنمية، التي سوف تثمر لا محالة، طال الزمن أم قصر، ويتأسس هذا السياق المنشود على الركائز الآتية:
· حتمية منح الفرصة لسائر مكونات المجتمع؛ أفرادا وجمعيات ومؤسسات، للمشاركة التلقائية والفعالة في تنمية المجتمع وخدمته، وهذا ما يطلق عليه في أدبيات التنمية: التنمية الشعبية.
· إشراك سائر تلك المكونات ينبغي أن يكون على أساس ديمقراطي عفوي، لا أيديولوجي أو عشائري أو رأسمالي.
· عدم تبعية التنمية، بمعنى أن التنمية لا تنجح إلا إذا كانت مستقلة، سواء عن تأثير الدول المتقدمة، أم عن تدخل الأجهزة الرسمية، التي قد توجه التنمية الوجهة التي تحلو لها، أي حسبما يتماشى وسياستها الاحتكارية والتسلطية.
· ثم إن مطمح التنمية لن يتحقق ما لم يعمل الجميع على نشر ثقافة التنمية، في المنزل والشارع والمدرسة والجمعية، ومختلف النوادي والمجالات.
زرع ثقافة التنمية لدى الجميع
إن مصطلح التنمية هو المقابل الأنسب لمصطلح التهميش، وكما رأينا فالتهميش يتخذ أبعادا متنوعة، قد تتمثل في الفقر، أو التخلف، أو الاستعباد، أو التبعية، أو غير ذلك، وغالبا ما كان هذا التهميش نتيجة للسياسة المنحرفة التي كانت تمارسها أجهزة الدولة، بمعنى أنه في الأصل غير مترتب عن عجز ذاتي، وإنما مقحم مما هو خارجي وفوقي، حتى أنه كان في الماضي القريب، لا يسمح للإنسان العادي أن يفكر في خدمة واقعه، وبالأحرى أن ينزل إلى الشارع للدعوة العملية والميدانية إلى التنمية، إذ كان مجال المجتمع المدني ضيقا ومحاصرا، أما الآن وقد تغيرت تلك الرؤية، ولو نسبيا، فإن من حق أي مواطن أن يشارك من خلال مؤسسات المجتمع المدني في تنمية، ولو محيطه المحلي الضيق، كالحي، والمدرسة، والشارع... ما لم يتعارض ذلك مع القوانين الرسمية المنظمة لذلك الشأن، مما يعني أنه أصبحت ثمة فسحة للمشاركة والعمل وخدمة الصالح العام. وأي إسهام من هذا النوع، قد يندرج في نطاق العمل التنموي، الذي يسع لكل الحقول والمجالات، من ثقافة وتعليم وصناعة ورياضة وفلاحة وترفيه، وغير ذلك.