تعيدنا متابعة الضجة الإعلامية والصحية العالمية اليوم بشأن مخاطر انفلونزا الخنازير إلى الضجة التي اثيرت ضد مرض انفلونزا الطيور منذ عشرة أعوام، والإيدز في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، وكأن العالم بدأ يدخل توازياً عشريا بين الأوبئة وبين الأزمات الاقتصادية الدورية، أزمة الثمانينات في أميركا والتسعينات في جنوب شرق آسيا، و 2002 وما بعدها في أميركا كذلك والأزمة الحالية في العالم باسره.
تثير هذه تساؤلات عدة أهمها: هل هذه الأزمات بنوعيها الاقتصادي والصحي هي طبيعية أم أن للإنسان يداً فيها؟
وربما الأدق هو التساؤل: هل للإنسان في الأزمة الصحية يداً كما هي في الأزمة المالية/الاقتصادية؟ وهل هما أزمتين من نوعين أم أزمة من شِقيْن؟
وليس هذا التساؤل من نمط نظرية المؤامرة في السياسة، بقدر ما هو تساؤل تحفزه تجربة المجتمع الدولي بأسره مع الأزمات الاقتصادية والمالية بمجموعها، ومع الأزمة الحالية تحديداً، حيث يعلن بوضوح قادة العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأميركية أن النخبة الممولنة تحديدا The Financilization elite لعبت الدور الأساس في هذه الأزمة تشاركها في ذلك النخب: السياسية والعسكرية والصناعية والثقافية. هذا ناهيك عن أن تاريخ الأزمات الاقتصادية يؤكد أنها ازمات أنتجها الإنسان، وليست الطبيعة. هي أزمات اجتماعية طبقية. ولا يقلل من هذا ما قاله آدم سميث قبل قرابة قرنين ونصف بأن هناك يداً خفية تنظم الاقتصاد، أي ليس الناس، فهذه اليد طالما عجزت، إن وُجدت، عن تنظيم الإقتصاد، بل هي مجرد حالة متخيَّلة اخترعها آدم سميث ليبرر لمن يخلقوا أزمات راس المال، في سعيهم الجشع نحو الربح الأقصى ما يفعلونه، وليسهل مهمتهم الطبقية بالتحديد.
أما في الزمن اللاحق للذي عاشه آدم سميث، وخاصة في حقبة العولمة، فلا بد للأكاديميا البرجوازية أن تمارس الوعظ بأن الاقتصاد، القوانين الاقتصادية، هي علم، علم بحت، ولذا، لا دخل للسياسة فيها، وهذا يعين عدم التحليل على أرضية الاقتصاد السياسي، بمعنى أنه اصلا لا توجد سياسة اقتصادية. هناك سياسة وهناك اقتصاد وهما عنصران كيماويان لا قرابة بينهما ولا تتفاعل. وعليه، إذا كانت السياسة مسألة شائعة وشعبية ويمكن الصراخ والاشتباك عليها، وحتى التصويت والانتخاب، فإن الاقتصاد مسألة محايدة ولا يفهم فيها سوى نخبة من التكنوقراط. ومن هنا يقول لنا "العلم" البرجوازي، لكم النضال من أجل الديمقراطية السياسية، ولكن ليس لأحد أن يفهم، ناهيك عن أن يطالب بممارسة الديمقراطية الاقتصادية. وهذا ما اوصل الطبقات العمالية في المركز للاشتباك على انتخاب هذه القائمة البرجوازية، وحتى الفاشية، أو تلك.
وهذا يعيدنا إلى السوق، السوق الحرة، بما هي إيديولوجيا. فجوهر السوق، كمكان تبادل، سواء سوق خضار صغير في قرية نائية في صعيد مصر، أو سوق الأوراق المالية في وول ستريت، جوهر السوق هم الناس الذين يلتقون هناك، أو يتواصلون اليوم عبر الإنترنيت هادفاً كل منهم تحقيق مصالحه في صفقات لا يُراعي فيها سوى مصالحه هو.
وهذا ما يتولد عنه ذلك القانون الخطير، قانون فوضى الإنتاج في النظام الراسمالي. كل منتج يشغِّل عماله وماكيناته لتحقيق أعلى ربح ممكن، بأقل كلفة، وأحياناً يبيع بخسارة ليحطم منافسيه. فالمنافسة هي حالة صراع وحشي بين الناس، كل مالك يحاول تدمير الآخرين. وحتى لو توافق بعض المنتجين ليشكلوا احتكاراً مشتركاً فسيحاولوا إهلاك مجموعة أخرى.
لا تراعي فوضى الإنتاج سوى ربح من يملكون. لذا، وبهذه الدافعية العمياء يمكن أن يصل الإنتاج إلى ما يفوق حاجات المستهلكين، فيحصل أحد أمرين:
□ الخروج للبحث عن اسواق خارجية في الدولة القومية كما يشرح التاريخ الاستعماري فالإمبريالي لأوروبا الراسمالية، هذا يعني وجوب احتلال أسواق الآخرين بالقوة إذا لم يفتحوها طوعاً.
□ أو حصول كساد حيث الأسواق الأخرى يصعب احتلالها، أو هي نفسها منتجة أو هناك كثرة من المنتجين المنافسين في السوق الدولي. وهي الأزمة الي يعيشها العالم منذ بضعة عقود والمسماة "الأزمة في جانب العرض".
لكن الأزمة في جانب العرض لم تقف هذه المرة عند هذا الحد. فحينما اصطدم العالم عبر فوضى الإنتاج بأزمة عجز التصريف، عجز الناس عن شراء تلك الكميات الهائلة من المنتجات، وبالطبع تدنى هامش ربح كبريات الشركات، حيث دخل العالم عامين عجفاوين فجرى رفع اسعار السلع الاساسية في محاولة من الاحتكارات (نقصد الصناعية هنا للتفريق عن البنوك ولو تفريقاً نسبياً) لتقشيط الطبقات الشعبية باسرها ، كل مواطن، في العالم على حدة، وهذا ما حصل في ارتفاع اسعار الغذاء والنفط بشكل خاص!
هذا الارتفاع في اسعار الأغذية والنفط ترافق مع تفاقم أزمة التخمة التي تصيب النخبة الممولنة في المركز الراسمالي ولا سيما في الولايات المتحدة. كانت هذه النخبة قد راكمت أموالاً هائلة عبر انفتاح فرص الاستغلال على صعيد عالمي، وذلك من تحويل أرباح الشركات التي نقلت مواقع الإنتاج إلى المحيط حيث الأجور المتدنية جداً[1].
يمكن التنبه هنا أن تراكم الأموال الكسولة بيد النخبة يعني أموراً عدة أهمها:
□ أن هذا التراكم الهائل هو ثراء للنخبة وليس للولايات المتحدة كلها
□ وهذا التراكم نفسه إلى جانب عدم الرغبة أو وجود مغريات للاستثمار المحلي دفع النخبة لتوليد النقود بالنقود عبر المضاربات وخاصة العقارية وإعطاء القروض السامة التي قدمتها البنوك لمن ليسوا ذوي ملاءات.
بيت القصيد هنا، أن النخبة المالية تحديداً، لم تجد ما تفعله بهذه الأموال الكسولة Lazy Capita[2]، فهي قد أفرغت جيوب الطبقات الوسطى والعمالية، ولم تستثمر داخل البلد لإقامة صناعات تشغلهم، أو شغلتهم في وظائف جزئية ، فوصل المواطن إلى العجز عن دفع ما عليه من أقساط وخاصة في القطاع العقاري، فكانت الأزمة الحالية. هي إذن فوضى الإنتاج التي لا ترى سوى الركض وراء الربح الأقصى، والذي ينتقل إلى درجى أقصى أخرى وهكذا، دون التفات لغير ذلك.
لا نود هنا العودة بالقارىء إلى ما كتبه كثيرون، ومنهم كاتب هذه السطور[3]، عن دور المدراء، كبار مدراء البنوك الكبرى في الأزمة الحالية وكيف تلاعب هؤلاء بالموجودات البنكية وحصلوا لأنفسهم على مبالغ طائلة برضى كبار اصحاب الأسهم، وكيف تمكن "مادوف" من الاحتيال باقتطاع 50 بليون دولار "فقط" لصالحه.
بكلام آخر، فإن المسؤول الرئيسي عن الأزمة هي القوانين التي سمحت بالقروض السامة والمضاربات التي كانت تحصل تحت عين السلطة، لكن موقف السلطة الإيديولوجي وخاصة في الولايات المتحدة كان وجوب غض الطرف عن ذلك. وهو الأمر الذي أصبح محط نقد عالمي بعد الأزمة لدرجة قيام أميركا نفسها بتأميم جزئي وربما مؤقت للبنوك التي تهاوت. لذا، يتم التراجع ولو بخجل عن المحافظية الجديدة، واللبرالية الجديدة، والسياسة النقودية...الخ[4] هذا رغم ان نقد ما حصل لم يخرج عن كلام سطحي من طراز، ان سبب الأزمة مجموعة من الجشعين!
ولكن، هل يمكن سحب فوضى سوق الأموال والمضاربات على الصحة؟ ربما ليس من السهولة بمكان القيام بذلك. ولكن ما هو ممكن هو ربط الصحة بالأعمال، وحافز الربح تحديداً، وهو نفسه العامل الذي يكمن وراء كل من أزمات الأموال والصحة معاً.
لنأخذ سلسلة أعمال مرتبطة بالصحة. ففي الولايات المتحدة، وهي جارة المكسيك، مهد انفلونزا الخنازير، تعاني نسبة كبيرة من الناس من السمنة، وهي ناجمة عن اضطرار المواطن لالتهام كميات كبيرة من الأغذية بشكل غير مالوف لأن الأغذية نفسها لا تحتوي الفيتامينات الكافية كما يقول داريل كولمان، مكتشف نبتة ألجي Algea التي تعتبر غذاء كاملا[5]. بيت القصيد أن الاضطرار لتناول كميات كبيرة من الأغذية يقود إلى السمنة..ولعلاج السمنة لا بد أن تعمل صناعتان وهما، صناعة الرياضة (اللياقة الجمسانية) حيث تجد في كل شارع أماكن للياقة تعمل على مدار الساعة، وعليه فإن السمنة قد شغَّلت صناعة الرياضة، اي حركت مقادير هائلة من فلوس المواطنين كي تتحرك في قنوات الاقتصاد، وهذا هو قلب الاقتصاد الذي بدون نبضه، يتوقف ويموت الجسم. فما دام الاستهلاك اساسي، فهذه الصناعة إحدى آليات تنشيط الاستهلاك. كما حركت السمنة صناعة الأدوية للذين لم تنفع معهم الرياضة، اي للذين اصبحوا يعانون من أمراض ناجمة عن السمنة، وهذا تحريك للأموال الكسولة Lazy capital التي لم يتم تدويرها في العجلة الاقتصادية. على أن هناك صناعة ثالثة خلقتها السمنة، وإن كانت إيجابية مقارنة مع الأُخريّيْن، وهي صناعة الأغذية الطبيعية أو العضوية Organic Food ، مما نشط الزراعات والتربية الحيوانية الخالية من الكيماويات.