حوار مع الباحث المغربي التجاني بولعوالي
أجرى الحوار: نجيب بوعزاتي الدريوش
نحو فهم أمثل للقضية الأمازيغية
إن الشتات الذي تعيشه الجالية المغربية المقيمة بالخارج منذ ستينيات القرن الماضي نتيجة الفقر والتهميش والإقصاء الممنهج من طرف المخزن المغربي آنذاك، وما كان لهذا الشتات من دور في اختراق المكون الهوياتي والثقافي لهذه الجالية... حتم على مهاجري الجيل الثاني والذي يعتبر الأستاذ الباحث التجاني بولعوالي أحد أهم وجوهه، العمل على ضرورة إعادة إدماج هذا المجتمع الذي انصهر وذاب في أتون الثقافة الغربية، ويعتبر كتابه (المسلمون في الغرب بين تناقضات الواقع وتحديات المستقبل)، أحد أهم الكتب التي عالجت القضية بالتحليل والتفصيل والتناول الحي والواقعي... ولم يقف الباحث عند معالجة قضايا تهم الجالية المغربية، بل تعدى ذلك إلى الاهتمام بالقضية الأمازيغية، التي تعتبر أحد أهم القضايا التي تقض مضجعه، نظرا للتجاوزات التي بدأت تطالها، سواء بين حاملي مشعل القضية أو بينهم وبين الحكومات المتعاقبة، التي ترى مطالبها مجرد أضغاث أحلام، مما جعل الباحث يفكر في معالجة القضية معااجة معتدلة تتجاوز كل ما هو شوفيني وتعصبي، ويعتبر كتابه (الإسلام والأمازيغية : نحو فهم وسطي للقضية الأمازيغية) عصارة فكرية عالج من خلاله القضية بكثير من التحليل وفق التصور الوسطي الإسلامي، ومن اجل التقرب أكثر من هذا المناضل الفذ قررنا أن نجري معه هذا الحوار.
1 : بما أنك السيد التجاني بولعوالي تعتبر إبن بيئتي، كيف تقيمون العمل الجمعوي بهذه المنطقة، خصوصا وأنكم كنتم قد تحملتم لبعض الوقت مهمة ترقيع الشأن المحلي بالمنطقة بانضمامكم إلى إحدى الجمعيات؟ ولماذا غيبتم القضية الأمازيغية حينها من برامجكم الثقافية؟ وماهي أهم المعوقات التي كانت تقف وراء ذلك؟
* في حقيقة الأمر، إن المنطقة التي أنتمي إليها، وهي دائرة الدريوش التي تنحدر غالبية ساكنتها من قبائل مطالسة، وتقع في وسط الريف الشرقي، شمال المغرب، تعتبر من بين المناطق التي مورس عليها تهميش شرس، ليس فقط على المستوى الوطنى، وإنما كذلك على الصعيد الجهوي، فأقصيت نهائيا من أغلب البرامج التنموية، التي شهدها المغرب منذ استقلاله، ويمكن إرجاع ذلك إلى مختلف العوامل التاريخية والسياسية والتسييرية والتعليمية والثقافية وغيرها، تتحدد أهمها من خلال العناصر الآتية:
ü من بين المفارقات العجيبة أن أهم مركز عمراني في المنطقة هو مدينة الدريوش، التي كانت في عهد الاستعمار الإسباني مزدهرة، حيث كانت تتركز أكبر ثكنة عسكرية إسبانية، مما اقتضى تدشين مرافق حيوية مختلفة، كالبنية التحتية من طرق وسكة حديد وشوارع مهيأة، والمدرسة والكنيسة والسينما وغير ذلك، حتى أن العجيب في الأمر، أن المدينة أصبحت بعد أكثر من نصف قرن من الاستقلال، تفتقد بعض تلك المرافق التي كانت تتمتع بها في أوائل القرن الماضي! ولعل هذا من شأنه أن يمثل عاملا سياسيا وتاريخيا سوف يدفع بالسلطات إلى تهميش هذه المنطقة عقب الاستقلال، عقابا لها، كما يزعم البعض، على عمالتها للاستعمار الاسباني، غير أن المعطيات التاريخية تفند هذا الزعم، لأن أغلب من كان يسكن المدينة إبان عهد الاستعمار، هم الإسبان أنفسهم، إضافة إلى قلة قليلة ممن كان يخدمهم.
ü ثم إنه فيما يتعلق بتسيير المنطقة، يبدو أنها عبر عقود ممتدة، لم تحظ بممثلين برلمانيين وجماعيين أكفاء، باستطاعتهم طرح خطط تنموية ناجعة من شأنها أن تخرج المدينة والمنطقة من مستنقع التهميش الذي تتخبط فيه، كما هو الشأن بالنسبة إلى مناطق ومدن مجاورة، كانت غير موجودة على الخارطة، والآن صارت أفضل من منطقتنا؛ منظرا وتسييرا ومشاريع..! لذلك يعتبر غياب التمثيل الجماعي والبرلماني الجيد للمنطقة سببا آخر أسهم، بشكل أو بآخر، في الوضعية المزرية التي آلت إليها المنطقة.
ü كما أن الهجرة الكثيفة التي تشهدها المنطقة منذ ستينات القرن الماضي، كانت في بدايتها ذات تأثير إيجابي تجسد من خلال توفير الإمكانيات المادية لساكنة المنطقة، التي كانت ترزح تحت الفقر والخصاص وندرة الموارد، فعم الخير في كل حي وقبيلة، وشيد الناس المنازل الواسعة والجميلة، واقتنوا السيارات والآليات، غير أنه منذ أواخر ثمانينات القرن الماضي، حيث سوف يسن قانون التجمع العائلي في بعض دول أوروبا الغربية، التي يهاجر إليها أبناء المنطقة، سوف تتكثف الهجرة الجماعية، ويصبح شغل الناس الشاغل هو الهجرة بأي ثمن! وقد انتقل هذا الهاجس إلى الفئة المثقفة، التي سوف تدفعها البطالة وقلة المداخيل، إلى التفكير جديا في مسألة الهجرة، مما سوف يسبب فراغا هائلا للمنطقة من سكانها الأصليين، الذين لا يعودون إليها إلا في العطل الصيفية.
ü وقد ترتب عن هذا الفراغ السكاني المؤقت، فراغ سياسي وثقافي واجتماعي وغير ذلك، وفيما يتعلق بما هو ثقافي، فقد باءت الكثير من المحاولات بالفشل، ويعتبر عامل الهجرة أهم سبب يقف وراء ذلك، لأن تفعيل ما هو ثقافي وسياسي وتعليمي واجتماعي يحتاج إلى مثقفين وفاعلين جمعويين وطلبة، وما دام أن أغلب هؤلاء يهاجرون إلى الخارج، فالنتيجة الحتمية لذلك هي موت الجمعية أو المؤسسة التي كانوا يساهمون فيها، وتعطيل العمل الذي كانوا يشاركون به.
من هذا المنطلق، فإن الهجرة وما تولد عنها من فراغ، كيفما كان، يعتبر العامل الرئيس في توقف العمل الجمعوي الذي أفتخر بأنني قدمته، مع زمرة من الأصدقاء والزملاء، إلى مدينتي ومنطقتي، حيث أنه بهجرتي وهجرة أغلبهم تعطلت جمعية كرت للثقافة والرياضة، التي رغم قصر تاريخها، فقد ساهمت في تفعيل الكثير من الشؤون الثقافية في المدينة، كان أهمها إعادة الحياة إلى دار الشباب بترميمها وتجهيزها، تنظيم أول دوري ناجح بامتياز في كرة القدم، شاركت فيه ثمانية فرق محلية، تنظيم مسابقات للعدو الريفي، تنظيم محاضرات وأمسيات فنية، وغير ذلك من الأنشطة.
أما بالنسبة إلى القضية الأمازيغية، فلم تكن مطلقا مغيبة، حيث ساهمت الجمعية ببعض الأنشطة الأمازيغية، كالأمسيات الغنائية والشعرية، كما عرضت أول فيلم ريفي مصور وهو (ثغربا ن دجيرث)، وقد كنت أهيئ مسرحية أمازيغية، كتبت شقا منها، وهي مسرحية (أمحضار ذ ضراف)، كما أعتز بأنني قدمت عرضا في دار الشباب، وهو الإسلام والأمازيغية، وقد حضر آنذاك حضور غفير، ساهم بشكل كثيف وإيجابي في ذلك العرض، الذي سوف يتطور ليصبح كتابا قائما بذاته، وقد نشرته دار النشر أفريقيا الشرق قبل أسابيع قليلة.
2 : عندما نتحدث عن الأمازيغية نستحضر دائما المكون العربي بصفته السيد الذي أقصاها من الميدان في كل البلاد التي يوجد فيها الكيان الأمازيغي، ترى لماذا لا يتم تغييب هذا الفكر الرجعي من طرف مناضلي المشروع الأمازيغي، وبالتالي الدفع بالقضية نحو الدفاع عن المطالب المشروعة بالطرق السلمية غير المستفزة لمشاعر النقيض العربي حتى تتمكن من كسب رهاناتها الثقافية والسياسية؟
* هذا كلام لا حيز له إلا في الإعلام المسيس أو المؤدلج، أما على مستوى الواقع، فالشعب المغربي واحد وموحد، لم نحس يوما ما بأن ثمة صراعا عربيا أمازيغيا، أو أمازيغيا عربيا! بل العكس، سمعنا الكثير عن الصراع الأمازيغي الأمازيغي، الذي ينشأ دوما بين القبائل الأمازيغية، كما هو الشأن في الريف والأطلس وسوس وغير ذلك.
إن التوجه القومي العروبي الذي ساهم في إقصاء الأمازيغية طوال عقود كثيرة، لا نجد له أثرا إلا على المستوى الفوقي، سواء لدى بعض المؤسسات الرسمية والحزبية، التي تحاول سيادة المغرب باسم العروبة، أو لدى بعض المثقفين القوميين المتشبعين بالفكر القومي العربي، ويحاولون إسقاطه على النموذج المغربي بنوع من التعسف والعشوائية، وهم لا يدرون بأن الفكر القومي العربي الحقيقي بريء مما يقومون به، وما يمارسونه من تهميش للإثنيات غير العربية، فما أكثر القوميين العرب غير المغاربة، الذين التقيت بهم شخصيا، وناقشتهم فيما يتعلق بالحالة المغربية، فأدركت أنهم يجهلون تماما أن أغلب ساكنة المغرب الأقصى خاصة أمازيغية، لأنهم كانوا يعتقدون أن شمال أفريقيا تعربت برمتها! مما دعا الكثير منهم إلى مراجعة أفكاره، واعتبار ما حدث للأمازيغ ظلم وجور وحرمان.
على هذا الأساس، فإن خدمة القضية الأمازيغية لا تكون إلا باستقطاب مختلف مكونات المجتمع المغربي، بغض النظر عن عرقها أو لسانها أو ثقافتها، وإفشاء ما مؤداه أن الأمازيغية ليست معادية لأحد، كيفما كان، بقدرما هي تناضل من أجل حقوقها اللغوية والثقافية والتنموية المشروعة وفق القوانين والأعراف الوطنية والدولية. دون الانزلاق في مستنقع ما هو شوفيني الذي من شأنه أن يزيد من عزلة الأمازيغية، ويجلب المآسي والويلات التي عادة ما يتلظى بها المواطن الأمازيغي العادي، أما النخبة السياسية أو الثقافية فهي تتنعم في أبراجها العاجية!
وقد تناولت هذا الجانب ببعض الإسهاب في كتابي الجديد (الإسلام والأمازيغة؛ نحو فهم وسطي للقضية الأمازيغة)، الذي صدر عن دار النشر أفريقيا الشرق في شهر أبريل المنصرم.
3: كيف تلقيتم نبأ إغتيال المولود السياسي الحزب الديمقراطي الامازيغي من الساحة السياسية المغربية، خصوصا وأنه كان يحمل في قانونه الأساسي الكثير من الرهانات ومنها الرهان السياسي المتمثل في دسترة اللغة الأمازيغية؟ وهل كان هذا المولود الأمازيغي حقيقة شوفينيا ومتعصبا قوميا يكن الحقد والكراهية لكل ما هو عروبي؟
* في واقع الأمر، إن الحزب الديمقراطي الأمازيغي شكل إضافة نوعية إلى المؤسسات الأمازيغية السياسية، لا سيما وأنه الحزب الأمازيغي الوحيد الذي استطاع أن يظهر في المغرب، ثم سرعان ما سوف يتلاشى، ليصبح في خبر كان! غير أنه على مستوى التراكم في الثقافة الأمازيغية فهو يحضر ويملأ فجوة ما في هذه الثقافة.
ثم إن هذا الحزب لا يشكل إلا معطى معينا من معطيات الحركة الثقافية والسياسية الأمازيغية، فلا يمكن اختزال الجانب السياسي والحقوقي للأمازيغية فيه، فهو لا يمثل إلا نخبة صغيرة من الأمازيغ، ورغم نشاطه المكثف عبر بضع سنوات لم يتمكن من التسلل إلى الأوساط الأمازيغية الحقيقية، والتعبير عن معاناتها وطموحاتها! لذلك فإن الرهانات التي كان يحملها، بما في ذلك رهان دسترة الأمازيغية، فهي رهانات يتجشمها كل مثقف أمازيغي شريف، وكل جمعية أو مؤسسة أمازيغية جادة، وليس الحزب الديمقراطي الأمازيغي وحده. حقا أنه كان حاضرا بصفة قانونية على المستوى السياسي المغربي، بيد أنه كان حضورا غير استراتيجي، لأنه لم يخدم الأمازيغية، بقدرما خلق لها أعداء جددا وكثرا!
لقد التقيت بالأستاذ أحمد الدغرني قبل حوالي سنة، وتجاذبنا أطراف الحديث بخصوص هذه الأمور، وشرحت له وجهة نظري، التي مفادها أن الحزب ينبغي أن يدافع على حقوق الشعب ومصالحه، بغض النظر عن شرائحه المختلفة، آنئذ قد يستطيع استقطاب ما يستقطب من المواطنين، أما أن ينطلق الحزب في إشعال فتيل الحرب بين مكونات الشعب المغربي التي تعايشت طوال أكثر من أربعة عشر قرنا، فهذا يتعارض جملة وتفصيلا مع العمل السياسي! لذلك أكدت للأستاذ الدغرني، أن يراعي معادلة واحدة في عمله الحزبي، إذا هو أراد أن يستمر، وهي الواقع المغربي وما يحويه من مكونات بشرية وثقافية ودينية وسياسية وغير ذلك، لأن تغييب أي مكون من هذه المكونات باسم النضال ضد تهميش القضية الأمازيغية، يعني ذلك إقصاء للآخر؛ المختلف مع الدغرني وأفكاره، الذي قد يكون عربيا أو إسلاميا أو حتى أمازيغيا! على هذا الأساس فإن القضية الأمازيغية يتحتم أن تتناول من قبل السياسيين والمثقفين والإعلاميين في شمولية تامة، أولا باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الجسد المغربي، وثانيا بصفتها مقوما ثابتا في تنمية الإنسان المغربي.
كما أنه ينبغي الفصل بين العمل الحزبي الذي يسعى من خلاله كل ممارس للسياسة إلى إنجاح مشروعه السياسي، وبين الحزازات الشخصية والحسابات التافهة، كما نلاحظ في المشهد السياسي المغربي عامة.
4: بصراحة كيف تنظرون إلى المكسب الأمازيغي إيركام الذي سيل حوله الكثير من المداد الأسود من طرف الفعاليات الأمازيغية التي لم تر فيه إلا غولا يلتهم ويحتوي البقية الباقية من المثقفين الأمازيغيين؟
* أنظر إلى المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية من خلال منظارين:
أولهما؛ أنه شكل إضافة نوعية إلى الثقافة الأمازيغية، التي ولجت بفضله، ولو نسبيا، نطاق التقعيد اللغوي والتاريخي والثقافي والفني والتعليمي وغير ذلك، فاغتنت بذلك المكتبة الأمازيغية الفقيرة، التي أصبحت تتباهى بمجموعة من المنشورات الجميلة والمتميزة التي يصدرها المعهد.
ثانيهما؛ أن المعهد أنشيء أصلا لامتصاص جانب من الامتداد الأمازيغي العارم، الذي قد يشكل نوعا من التهديد للدولة المغربية، التي لم يكن أمامها إلا إقامة هذه المؤسسة وتجميع نخبة من المثقفين الأمازيغ، الذين لهم صدى كبير في الشارع الأمازيغي، فيها، تحت ذريعة خدمة الأمازيغية بكيفية علمية وممنهجة، وقد تمت هذه الخدمة في بعض جوانبها، كإصدار المنشورات ودعم الجمعيات وعقد الندوات وغير ذلك، لكن ظلت بعض الأمور الأساسية عالقة، كما هو الحال بالنسبة إلى لتسريع وتيرة تدريس الأمازيغية، ودسترة الأمازيغية، وتفعيل الإعلام الفضائي الأمازيغي، وما إلى ذلك، ألا يعني هذا، بشكل أو بآخر، أن المعهد الملكي قد أفلح في تكميم الكثير من الأفواه، التي كانت تنادي علانية برفع التهميش عن القضية الأمازيغية! فأصبحت مجرد بيادق في معادلة صعبة يديرها المخزن، بعدما كانت أقلاما وأصواتا تصرخ في وجه كل من تسول له نفسه الإساءة إلى الأمازيغية!