مصطفى حيران
كَمْ هو مؤسف ، أن يُعاين المرء من بيننا، المشغول حقا بحاضر ومستقبل العباد والبلاد، كل هذا التدمير الذي تعرضت له الحياة عندنا، والمؤلم جدا، أن نقف على الدَّرك الأسفل الذي بلغناه، ويتجلى بأفظع صورة فيما عليه فلذات الأكباد، أي أبناؤنا وبناتنا، الذين "جنوا" بالرغم منهم، نتائج كل تلك السوءات التي "زرعها" أولئك الذين تعاقبوا على ركوب ظهورنا منذ ما سُمي زيفا بالاستقلال. لنأخذ ورش التعليم مثلا، الذي يعتبر، في عُرفِ الأنظمة المهتمة فعلا بحاضر ومستقبل مجتمعاتها، القاطرة التي تجر كل شؤون الحياة الأخرى.
لقد فعل الحسن الثاني وزمرة السياسيين الذين التفوا حوله، مُتزاحمين متقاتلين، كما تفعل أسراب الذباب، كل شيء ليكون ورش التعليم أي شيء آخر، غير ذلك المشتل الذي يمنح تلاميذ نُجباء، وشبابا مجدا، ورجال أكفاء، في شتى مجالات العمل المُنتِج لأنفسهم ولمجتمعاتهم، ناهيك عن تخريج علماء وأدباء وفنانين... إلخ نباهي بهم الأمم.
تسلم حقيبة التعليم أناس مثل الوزير الأول الاستقلالي سابقا، عز الدين العراقي، الذي كان مشغولا أكثر، بتوفير أسواق لشركته المتخصصة في صنع الطاولات المدرسية، التي أنشأها حصرا ليستغل حاجة المؤسسات التعليمية الوليدة، في مجتمع نساؤه ولودات، إلى الأثاث الأولي الضروري في العملية التعليمية، وكان أن جنى الرجل مئات الملايير من الدراهم هو الآن بصدد ابتلاعها كأي عجوز "خانز فلوس" وفي نفس الوقت فإن معظم الذين تتلمذوا على مرحلة "التعريب" التي دشنها هو وحزبه باتفاق "مع مول شي" أي الحسن الثاني، أصبحوا في معظمهم أميين مُرَكَّبِين لا يُتقنون أية لغة درسوا بها. ويُحكى أنه في إحدى مراحل عقد الثمانينيات من القرن الماضي، جاء عز الدين العراقي ( أو بوقرفادة كما لقبه الاتحاديون أيام المعارضة ) مَن قال له إن هناك أزمة لغات في التعليم، أتدرون بماذا أجاب حينها؟ قال: "ديروا ليهوم شوية ديال الأمازيغية باش يتلفوا كْثَر".
هكذا كان "يُفكر" واحد من أكثر الوزراء تعميرا في الحياة السياسية والتعليمية بالمغرب إلى جانب الحسن الثاني. لذلك لا غرابة أننا نتوفر الآن على نوع من البشر، خرّيج تعليم ما بعد الاستقلال، على مدى ثلاثة أجيال "لديه - بتعبير الفكاهي الجزائري فلاكَ - أكداس من الأسلاك المُعقدة مكان الدماغ، وبيده "تيليكوموند" يقضي وقته في التنقل من مشكلة إلى أخرى".. نوع بشري يكاد يكون فريدا بين العالمين، تعلَّم كل شيء ولا شيء في نفس الوقت، ولديه قدرة وذكاء كبيرين على جعل الحياة أسوأ مما كانت عليه من قبل. مما يمنح ذلك الانحدار العظيم الحثيث للقطيع برمته.
لستُ اشك لحظة واحدة أن الحسن الثاني وشرذمة "لقطاطعية" - أي السياسيين الذين ساعدوه في جعل المغرب على ما هو عليه - كانوا يعلمون أنهم باختيارهم لنمط التخريب - عفوا - التعريب، في التعليم العمومي، أي مُنقلب سينقلب إليه المجتمع المغربي، حتى يبقى هذا الأخير قابلا ليُركب ظهره، أرذل الخلائق، وأحطهم "هِمّة" وأخلاقا، إلى ما شاء الدهر.
العملية التعليمية هي أخطر ما يُمكن أن يَصنع، أو يُقوض، مستقبل المجتمع، أي مجتمع، ولتلتفتوا حواليكم(أتوجه للمشغولين حقا بحال هذا البلد وأناسه (وانظروا إلى الخراب الذي حل ب "الكَنس" المغربي.
ثمة في البادية المغربية، عُرف فلاحي، يقتضي منح الحمار الشعير منذ أيام الصيف الأولى، إذا ما تقرر الاستعانة به في عملية الحرث خلال الخريف الموالي، وفي ذلك حكمة عملية بليغة، مؤداها أن يتعود الجهاز الهضمي للحمار على الشعير، وبالتالي يدخل في نظامه الغذائي الضروري لعملية تقليب أحشاء الأرض. لنكن أشقياء ولنسأل فلاحا مُجرِّبا: ماذا كان سيحدث لو لم تبدأ بمنح حمارك شعيرا حتى أيام الحرث؟ سيبتسم الرجل الذي شقّـت الطبيعة مستعينة بشرط الحياة المغربي، وجهه فأصبح ذا تضاريس وعرة، يصعب سبر أغوارها، ثم يُجيبك: "غادي تجيه صريصرة ويبدا يخرا ماشي يحرث".
تُرى ماذا تفعل أجيال المغاربة الذين "أُطعموا" نمط التعليم الذي اختاره لهم الحسن الثاني وزمرة "لقطاطعية ديالو"؟