الربا وخطره
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد: فقد سمعنا جميعاً هذه الندوة المباركة التي تولاها صاحبا الفضيلة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، والشيخ: عبد الله بن زايد في موضوع خطير، والناس في أشد الحاجة إلى التنبيه عليه، والتحذير منه وهو موضوع الربا، ولقد أجادا وأفادا وأوضحا ما ينبغي إيضاحه في هذا الموضوع فجزاهما الله خيراً وضاعف مثوبتهما، وزادهما وإيانا وإياكم علماً وهدى، وتوفيقاً.
لا شك أن هذا الموضوع جدير بالعناية، وقد تورط فيه كثير من الناس وإن كان هناك بحمد الله من هو يحذر الربا، ولكنه قد عم وطمَّ وقلَّ من يسلم منه، وقد جاء في الحديث الصحيح: ((يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا، قيل يا رسول الله: الناس كلهم. قال: من لم يأكله، ناله من غباره))[1]. فالأمر خطير بسبب كثرة البنوك وكثرة التساهل وضعف الإيمان، وشدة الجشع في تحصيل الدنيا، وقد سمعتم في هذه الندوة الخير الكثير والفوائد الجمّة وأن الواجب على المؤمن أن يتقي الله، في تحصيل المال، قبل كل شيء يجب أن يعتني بهذا الأمر، حتى لا يقع فيما حرم الله.
حب المال كما سمعتم غريزة في النفوس ولكن يجب على المؤمن أن يحوط هذه الغريزة بما جاء به الشرع، حتى لا ينفلت فيقع فيما حرم الله، فقد قال جل وعلا: وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا[2]، وقال سبحانه: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ[3] يعني المال، فلما كان المال محبوباً للنفوس، وبه تقضى الحاجات، وبه يستغني الإنسان عن الحاجة إلى الغير وفوائده كثيرة، لكن يجب على المسلم أن يحذر ما حرم الله عليه وأن لا يحمله حب المال على تعاطيه من غير طريقه الشرعي، وقد جاء الحديث الصحيح عن النبي عليه الصلاة والسلام: ((أنه لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيم فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيم أبلاه))[4] فهو مسؤول وقد ذم الله من ألهاه التكاثر حتى زار المقابر، قال عز وجل: أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ[5] يعني حتى انتقلتم إلى القبور بالموت، يسمى الموت زيارة؛ لأن القبور ليست هي المقر الأخير، بل وراء القبور شيء آخر، فالناس حين ينقلون إلى القبور إنما ينقلون إليها للإقامة، إقامة مؤقتة ثم يخرجون منها إلى الوقوف بين يدي الله، والحساب والجزاء ثم إلى الجنة أو النار، فذاك هو المقر الأخير: إما الجنة وهي للمتقين، وإما النار وهي للكافرين والعصاة، فالناس على خطر: بين وبين، فالعاصي على خطر من ذلك، وإن كان العاصي لا يخلد في النار، إذا كان مات على التوحيد والإيمان كما قاله أهل السنة والجماعة، لكنه على خطر من دخولها بمعاصيه التي مات عليها. فليحذر، من جملة ذلك الربا الذي توعد الله أهله بالنار، كما قال عز وجل: وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[6] يعني من عاد إلى الربا بعدما جاءته الموعظة، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، هذا وعيد عظيم أن صاحب الربا يخلّد في النار، وهذا على حالين: أحدهما أن يكون استحله، فيكفر بذلك. نعوذ بالله، ويخلد في النار مع الكفار. من استحل الربا ورآه حلالاً وأنكر تحريم الله له، فإنه يكون كافراً ويكون أتى بناقضٍ من نواقض الإسلام؛ لأنه استحل ما حرم الله من المحرمات المعلومة من الدين بالضرورة، فصار من الكافرين وانتقض إسلامه. فإذا استحلّ الزنا مثلاً أو الربا أو اللواط، أو العقوق أو السرقة أو ما أشبه ذلك، انتقض إسلامه، وصار في حكم المرتدين، إذا كان ممن يعلم ذلك أو أقيمت عليه الحجة بذلك، إذا كان بعيداً عن بلاد المسلمين لا يشعر بهذا الأمر.
والحال الثاني: أن يكون ما استحل ولكن حمله حب المال، والجشع حتى فعل الربا بعد العلم فهو متوعد بالنار وبالخلود فيها، أيضاً لكنه خلود غير خلود الكفار، خلود مؤقت له نهاية. فإن الخلود خلودان: خلود لا نهاية له، وهذا هو خلود الكفار نعوذ بالله، لا يخرجون منها أبداً كما قال سبحانه: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ[7]، ويقول عز وجل: يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ[8]، نسأل الله العافية.
الخلود الثاني: خلود مؤقت، له نهاية وهو خلود بعض العصاة، كالقاتل لنفسه والزاني والمرابي ونحو ذلك، كما سمعتم في قوله جل وعلا في قراءة هذه الليلة: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ثم قال: وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا[9].
فالخلود هنا يشمل المشرك والقاتل والزاني، فالمشرك خلوده دائم. نسأل الله العافية، والقاتل والزاني خلودهما مؤقت. إذا كانا لم يستحلا القتل، والزنا، وهو خلود له نهاية.
فالواجب على المؤمن أن يتقي الله وأن يراقبه وأن يحذر الربا الذي حذر الله عباده منه، وآذنهم بالحرب إن هم فعلوه كما قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ[10] لا نعلم من المعاصي شيئاً جاء فيه هذا الوعيد كما سمعتم في الندوة، لا نعلم ذنباً قال الله فيه بهذا المعنى يعني المحاربة، إلا ذنب الربا نسأل الله العافية.
فيجب الحذر مما حذر الله منه، ولا ينبغي للعاقل أن يغتر بالناس، يقول: الناس فعلوا، قال تعالى: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ[11]، وقال عز وجل: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ[12] فليس الكثرة قدوة في الباطل. فالواجب اتباع الحق وإن قل أهله، ثم أيضاً يجب أن لا يحمله حب المال والجشع في حب المال، على تعاطي الربا أو الغش أو الخيانة، أو السرقة أو النهب أو غير ذلك، يجب أن يكون حب المال مقيداً بقيود الشريعة ومن تقيد بها أفلح وبارك الله له فيما رزقه، وكفاه القليل عن الكثير يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه))[13] خرجه مسلم في صحيحه. فالجشع يضر ولا ينفع ويورد الموارد المعطبة، فيجب الحذر من هذا الجشع ويجب التقيد بقيود الشريعة، فيما أحل الله لك من المكاسب وغيرها، ولعظم هذا الأمر سمعتم ما جاء في الندوة من تلاوة فضيلة الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله، قوله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ[14] فبدأ بالأكل من الطيبات قبل العمل، وهو الشكر، فالشكر هو العمل، لبيان عظم وخطر الأكل الحرام، فإن أكل الحرام يفضي إلى فساد القلب ومرضه، وقسوته أو إلى كفره، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فيجب على المؤمن أن يتقي الله وأن يعتني بالحلال، وقال في حق الرسل وهم أشرف الناس: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا[15]. فالرسل أشرف الناس لكن لينتفع الناس، وليمتثلوا وليستفيدوا عظم الأمر، فكان الرسل يخاطبون بهذا، وأن يبدؤوا بالطيبات، فكيف بغيرهم؟
فالواجب أن يعنى المؤمن بأكله الطيبات، ويتوخى بأكله وشربه وغير ذلك من شؤونه، مما أباح الله له، وليحذر ما حرم الله عليه سبحانه وتعالى من الربا وغيره، فكما حرم الله عليه الربا، كذلك يحذر أن يكون أكله من طريق الرشوة، أو من طريق الخيانة، أو من طريق السرقات، أو من طريق المعاملات الفاسدة، يجب الحذر من جميع أنواع الخبث، حتى لا يأكل إلا طيباً، وحتى لا يعمل إلا طيباً. وسمعتم أنواع الربا وأنه نوعان:
الربا يرجع إلى نوعين: ربا الفضل، وربا النسيئة؛ ربا الفضل: بيع الشيئين من جنسٍ واحد، بزيادة في أحدهما يسمى ربا الفضل، جنيه بجنيهين، درهم بدرهمين، صاع رز بصاعين، صاع حنطة بصاعين، هذا يقال له ربا الفضل، ولا يجوز مطلقاً لا يداً بيد ولا نسيئة، فالجنس الواحد من أموال الربا، إذا بيع متفاضلاً، فهذا هو ربا الفضل، صاع من الحنطة بصاع ومد، صاع بصاع ونصف، أو صاع من الرز بصاع ونصف أو صاعين أو درهم بدرهمين أو جنيه بجنيهين، أو حلية تزن عشرة جنيهات بحلية تزن إحدى عشرة، أو انثى عشر من الذهب وما أشبه ذلك، هذا يقال له ربا الفضل، وهو محرم سواء كان يداً بيد، أو بالنسيئة، إذا باعه نسيئة، اجتمع فيه الربا بنوعيه إذا باعه صاع حنطة بصاعين، اجتمع فيه الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النسيئة، أو باع حلية فيها عشر جنيهات، بحلية فيها عشرون أو خمسة عشر نسيئة، هذا فيه الربا بنوعيه، هذا ربا الفضل وربا النسيئة جميعاً.
وربا النسيئة مثل ما سمعتم أن يبيع ربوياً بربوي نسيئة، من غير جنسه يقال له ربا النسيئة، كأن يبيع الفضة بالذهب نسيئة، هذا يقال له: ربا النسيئة لأنهما جنسان، هذا ربا النسيئة فإذا باع فضة بذهب نسيئة أو صاعاً من بُرٍ بصاعين من الشعير نسيئة، أو صاعاً من بُر بصاعين من الأرز نسيئة، هذا يقال له: ربا النسيئة ومع هذا دخل في ضمنه ربا الفضل. هذا إذا باع يعني: ذهباً وحده أو رزاً وحده، أما إذا باع صاعاً من الأرز بصاعين من الشعير نسيئة، فهذا فيه ربا النسيئة فقط، لأنه يجوز بيع الصاع من البر بصاعين من الشعير يداً بيد، فلا بأس، لكن إذا كان نسيئة فهذا فيه ربا النسيئة، وإذا كان صاعاً من البرّ الطيب، بصاعين من البر الردي، نسيئة اجتمع فيه الربا بنوعيه: ربا الفضل، وربا النسيئة جميعاً، وإذا أعطاه قرضاً ألف ريال بألف وعشرة، صار فيه ربا الفضل وربا النسيئة لأنه لم يقبضه من المؤجل، وإذا حل الدين فقال: إما أن تربي، وإما أن تقضي، إما تعطيني حقّي وإلا أزيدك، قال: ما عندي شيء أنا ما أستطيع الآن، أن أسلّم لك ألفاً أو ألفين على حسب دينه، ولكن لا مانع أمهلني وزد فيمهله في الألف إلى ستة أشهر، أو إلى سنة مع زيادة خمسين ريالاً أو مائة ريال أو أكثر أو أقل من أجل إمهاله.