إن من الناس من يغدو ويروح في دنياه دون أن يلتفت إليه بشر، أو يشعر به إنسان، أو يشار إليه بيد أو بنان. ومن الناس من يملأ الدنيا ضجيجا، دون نفع أو طائل، على غرار ما قال القائل: جعجعة ولا طحين. ومنهم من يشغل الناس أينما حل أو ارتحل، فهو كالغيث أينما وقع نفع، وأحسب أن الشيخ القرضاوي واحدا من هذا الصنف الأخير الذي شغل الناس بغدوه ورواحه، وحله وترحاله؛ بل بصمته إذا صمت، وبكلامه إذا تكلم. أحسبه كذلك ولا أزكيه على الله تعالى.
ولا أعني بالناس هنا طائفة معينة منهم؛ وإنما الناس كل الناس، على اختلاف ألوانهم وأجناسهم، وتباعد ديارهم وأوطانهم، وتنوع معتقداتهم وأفكارهم، وتباين رؤاهم واتجاهاتهم.
لقد كنا نقرأ فيما نقرأ، ونسمع عن الهمم العالية وأصحابها. كنا نسمع قول الشاعر:
فنقول: وأين هذه الأجسام التي أتعبتها النفوس، أو الأبدان التي شكت من الأرواح؟
لقد قرأنا وسمعنا عن صاحب الهمة العالية كابن تيمية الذي قال: (ما يصنع بي أعدائي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فجنتي معي، أنا حبسي خلوه وقتلي شهادة ونفيي سياحة) فنقول: همة والله ما بعدها همة.
وسمعنا النفس التواقة التي عرف عمر بن عبد العزيز يوم أن قال: إن لي نفسا تواقة لا تعطي شيئا إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها وهي الجنة. فقلنا: والله نفس ما بعدها نفس.
ولعل هذا الرهط من الدعاة الربانيين وغيرهم استلهموا هذا الأمر من نبي الله موسى عليه السلام حين طمع في الرؤيا بعد أن ظفر بالكلام. نعم. إنه لم يكتف بكلام الملك العظيم وإنما أراد رؤية الوجه الكريم. وفي هذا يقول القائل:
كنا نسمع بهذا ونقرأ عن ذاك، فيتملكنا العجب والاستغراب، وتعلونا الحيرة والدهشة، حتى رأينا شيخنا القرضاوي – حفظه الله- يسطر لنفسه بهمته العالية، ونفسه التواقة؛ رأيناه يسطر لنفسه سطورا وصفحات في سجل أصحاب الهمم العالية، جاعلا نصب عينيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله كريم يحب الكرم، و يحب معالي الأخلاق، و يكره سفسافها "[2].
لقد عايشت الشيخ القرضاوي فلاحظت أن أكبر همومه: أن وقته لا يتسع لأعماله، ولا يتناسب مع طموحاته وأماله، هذه والله أكبر مشاكله؛ دقائقه التي لا تطاوعه فيما يريد، إنه يريد الدقيقة ساعة، والساعة يوما، واليوم شهرا، والشهر عاما، والعام أعواما ودهورا.
إن همته العالية جعلته يصارع الزمن ويغالبه، ويتمنى أن لو وقفت عقارب الساعة حتى ينهي ما عنده، وينجز ما لديه، ويكتب ما أراد، ويسطر أفكاره، وينهي مشروعاته وأماله.
وقد تعلم القرضاوي الاستفادة من وقته، ولما لا وقد حفظ من شيخه "البنا": الواجبات أكثر من الأوقات، فعاون غيرك على الانتفاع بوقته. وحفظ منه أيضا: أن الوقت هو الحياة. كما حفظ من شيخه " الغزالي": أن كل مفقود عسى أن تسترجعه إلا الوقت. وحفظ من حكم السابقين أن الزمن لا يقف محايداً ؛ فهو إما صديق ودود، أو عدو لدود، وهذا ما جعل يكتب لأبناء هذا الجيل كتابه القيم "الوقت في حياة المسلم".
ولم يكن الشيخ ليعظ غيره مهملاً نفسه، بل كان من أشد الناس حرصاً على وقته، فلا تراه إلا محاضرا أو متحدثا، أو مناظرا أو مسافرا، أو كاتبا أو قارئا، لا ينفك بأي حال من الأحوال عن هذه الأمور.
ومع كثرة ترحاله وأسفاره؛ لا يلبث أن يفاجئ الجميع بالجديد في أمور الدعوة، مرة بكتاب في حلة جميلة، وأخرى ببحث في ثوب قشيب، وثالثة بمحاضرة هنا أو هناك، ورابعة بإطلالة من خلال قناة فضائية ببيان ينشر، أو موقف يذاع، أو كلمة حق انتظرها الناس، أو مظاهرة سيرها بنفسه، أو دعا إليها عالمه الإسلامي الذي يعيش في أعماق قلبه.
وأود هنا أن يعيش القارئ معي يوما واحدا من أيام الشيخ؛ الذي أتعب نفسه وجسده، وأتعب محبيه ومتابعيه؛ بل مبغضيه وشانئيه.
هذا اليوم هو يوم الأربعاء الموافق 19 رمضان1427هـ، الموافق 1/ 10/ 2006م، كنت يومها في مكتب فضيلة الشيخ، ومعي إخواني الذين يعملون في مكتب الشيخ، وكان حضور الشيخ للمكتبة في هذا اليوم بعد الساعة التاسعة صباحا، وقضينا هذا اليوم الرمضاني مع فضيلة الشيخ نمارس أعمالنا، والشيخ في مكتبه يطالع كتبه، ويسطر بقلمه ما فتح الله عليه به، ويرد على الهاتف إما مجيبا على سؤال، أو مطمئنا على متحدثه، وبين يديه عدد من كتبه التي تحت الطبع، ومنها: "رد إسلامي على البابا بنديكت السادس عشر وتطاوله على الإسلام" و" فقه الجهاد" ... وغيرهما، ينظر في هذا ويراجع ذلك، وهو بين هذا وذاك يختلس بعض الدقائق ليطالع كتب التفسير، ليعد تأملاته وخواطره حول القرآن الكريم - والتي يلقيها يوميا في مسجده ( المسجد الكبير بالدوحة) ومنذ أكثر من أربعين عاماً.
وظل الشيخ هكذا لم يفارق مكتبه حتى اقترب موعد الإفطار، ثم دخل الشيخ قبيل المغرب ليريح هذا الجسم الذي أتعبته نفس صاحبه، ولم تمر سوى ساعة أو يزيد؛ حتى كان الشيخ ذو الثمانين عاما في الصف الأول مصليا العشاء والركعات الأربع الأول، ثم ابتدأ في تأملاته وخواطره بعد أن جثت حوله الركب، وزحف إليه المصلون، ساكنة أسماعهم، خافتة أرواحهم، فأنصتت أسماعهم، وبهرت قلوبهم؛ بما عند الشيخ من لغة جميلة وعرض رائع، ولهجة صادقة، ولسان فصيح، وأسلوب رصين جميل، وصوت قوي معبر، واستمر الشيخ في تأملاته نحو أربعين دقيقة.
وما أن انتهى الشيخ من تأملاته حتى دلف إلى محرابه ليؤم جموع المصلين؛ تاليا ما تيسر له من كتاب ربه بصوته القوي، ولهجته الصادقة، وتفاعلاته غير المتكلفة.
ولم يستطع الشيخ أن يكمل صلاته ( الوتر) فخرج مسرعا، لا ليريح جسده، ولا ليأخذ قسطا من الراحة – أرى من الواجب أن يأخذه – وإنما ليركب سيارته، بعد أن بدل فيها ملابسه، ووضع عمامته( فلكل مناسبة حلتها)، حيث كان الشيخ على موعد ثان في تمام الساعة والنصف في مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، وإلى هناك حث الشيخ سائقه على الإسراع مخافة التأخير، فأسرع السائق الخطى، وجد في السير، وما هي إلا دقائق معدودة؛ حتى أطل الشيخ بوجهه السمح تعلوه بشاشة مشرقة، ليلقي محاضرة كان عنوانها: (كيف نربي أبناءنا تربية إسلامية صحيحة) طوّف فيها الشيخ بالجمهور الكريم، حول معان عدة، فعرف التربية، ثم أوضح ما المقصود من التربية الإسلامية، وعدّد الشيخ أنواع التربية الإسلامية المطلوب توافرها للنشء، واستمر الشيخ متحدثا كأنما يقرأ من كتاب، أو يغرف من بحر، واستمرت المحاضرة ساعة لا تقل، بل تزيد بضع دقائق.
وطلب المنظمون للمحاضرة من الشيخ أن يجلس دقائق يلتقط فيها الشيخ أنفاسه، فاعتذر الشيخ لارتباطه بعمل ثالث! إذ كانت جمعية البلاغ الثقافية - والتي يترأس الشيخ مجلس إدارتها- قد دعت إلى احتفالية كبرى يتم من خلالها جمع تبرعات لاستكمال مشروع ( رحمة للعالمين)، الذي دعا له الشيخ بعد الإساءات التي نشرتها إحدى المجلات الدانماركية منذ ما يزيد على عام تقريبا.
وكان الحضور على موعد، والحفل على انتظار، ودخل الشيخ القاعة، وجلس يلتقط أنفاسه، ويستجمع قواه، ليبدأ في محاضرة ثالثة، ربما تخيل البعض أن الشيخ لن يطيل فيها، نظرا لتأخر الوقت، وطول برنامجه الليلة، المتصل بعمل النهار؛ لكنه تكلم فأطال، ولك أن تتخيل أخي القارئ أن المحاضرة استمرت قرابة الساعتين، ربما تعب المستمعون، لكني أزعم أن الشيخ لم يتعب.
وابتدأ الشيخ كلمته بوصف ما جاء علي لسان البابا وغيره من الرسوم المسيئة بأنها أكاذيب لا تستحق الرد عليها من عالم.
وأشار الشيخ إلى أن الكثير من غير المسلمين لم يفهموا الإسلام، ولم يعرفوا حقيقة الرسول صلي الله عليه وسلم، ولا سيرته العطرة، وأن لديهم صورا مشوهة نقشت في رؤوسهم إلى من القديم وإلى اليوم.
وأوضح فضيلته أن هذه الإساءات ليست جديدة، وان الرسول صلي الله عليه وسلم أوذي في سبيل نشر الدعوة، وتحمل الكثير من العنت 13 عاما، وحينما عاد إلى مكة منتصرا لم ينتقم وقال قولته الشهيرة: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فانتم الطلقاء.
وأوضح الشيخ في كلمته هذه: أن المسلمين مطالبون بتعريف الناس في الغرب سيرة محمد صلي الله عليه وسلم، والرسالة الخالدة، وأرجع الشيخ في ذلك لكون رسالة الرسول صلي الله عليه وسلم عالمية، وهو الرسول الوحيد الذي أعلن عالمية الرسالة، وخلودها.
وما أن أنهى الشيخ كلمته حتى عجت القاعة بالتصفيق، والتكبير، والدعاء والثناء، لشيخ هذه الأمة، وعالمها الذي أتعب من يأتي بعده، ولا أملك إلا أن أقول:
اللهم أدم شيخنا بعافية في دينه ودنياه، وفي نفسه وماله وأهله، واحفظ عليه صحته، وقوي له ظهره، وأعنه على حمل ما كلف به، واجعل له نورا يمشي به في الدنيا، ويحيا به في الآخرة، وارزقه شهادة في سبيلك كما يتمنى. اللهم آمين آمين...
أكرم كساب.
ولا أعني بالناس هنا طائفة معينة منهم؛ وإنما الناس كل الناس، على اختلاف ألوانهم وأجناسهم، وتباعد ديارهم وأوطانهم، وتنوع معتقداتهم وأفكارهم، وتباين رؤاهم واتجاهاتهم.
لقد كنا نقرأ فيما نقرأ، ونسمع عن الهمم العالية وأصحابها. كنا نسمع قول الشاعر:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مُرادها الأجسام
فنقول: وأين هذه الأجسام التي أتعبتها النفوس، أو الأبدان التي شكت من الأرواح؟
لقد قرأنا وسمعنا عن صاحب الهمة العالية كابن تيمية الذي قال: (ما يصنع بي أعدائي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فجنتي معي، أنا حبسي خلوه وقتلي شهادة ونفيي سياحة) فنقول: همة والله ما بعدها همة.
وسمعنا النفس التواقة التي عرف عمر بن عبد العزيز يوم أن قال: إن لي نفسا تواقة لا تعطي شيئا إلا تاقت إلى ما هو أعلى منه وإني لما أعطيت الخلافة تاقت نفسي إلى ما هو أعلى منها وهي الجنة. فقلنا: والله نفس ما بعدها نفس.
ولعل هذا الرهط من الدعاة الربانيين وغيرهم استلهموا هذا الأمر من نبي الله موسى عليه السلام حين طمع في الرؤيا بعد أن ظفر بالكلام. نعم. إنه لم يكتف بكلام الملك العظيم وإنما أراد رؤية الوجه الكريم. وفي هذا يقول القائل:
حتى يروم التي من دونها العطب والحُرُّ لا يكتفي من نيل مكرمةإن كفَّهُ رهبٌ يستدعه رغبُ يسعى به أمل من دونه أجلُأنظر إليك وفي تسآله عجبُ لذاك ما سأل موسى ربَّه أرِنيوهو النَّجيُّ لديه الوحي والكتب يبغي التزيُّد فيما نال من كرم
كنا نسمع بهذا ونقرأ عن ذاك، فيتملكنا العجب والاستغراب، وتعلونا الحيرة والدهشة، حتى رأينا شيخنا القرضاوي – حفظه الله- يسطر لنفسه بهمته العالية، ونفسه التواقة؛ رأيناه يسطر لنفسه سطورا وصفحات في سجل أصحاب الهمم العالية، جاعلا نصب عينيه قول النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله كريم يحب الكرم، و يحب معالي الأخلاق، و يكره سفسافها "[2].
رجل يصارع الزمن
لقد عايشت الشيخ القرضاوي فلاحظت أن أكبر همومه: أن وقته لا يتسع لأعماله، ولا يتناسب مع طموحاته وأماله، هذه والله أكبر مشاكله؛ دقائقه التي لا تطاوعه فيما يريد، إنه يريد الدقيقة ساعة، والساعة يوما، واليوم شهرا، والشهر عاما، والعام أعواما ودهورا.
إن همته العالية جعلته يصارع الزمن ويغالبه، ويتمنى أن لو وقفت عقارب الساعة حتى ينهي ما عنده، وينجز ما لديه، ويكتب ما أراد، ويسطر أفكاره، وينهي مشروعاته وأماله.
وقد تعلم القرضاوي الاستفادة من وقته، ولما لا وقد حفظ من شيخه "البنا": الواجبات أكثر من الأوقات، فعاون غيرك على الانتفاع بوقته. وحفظ منه أيضا: أن الوقت هو الحياة. كما حفظ من شيخه " الغزالي": أن كل مفقود عسى أن تسترجعه إلا الوقت. وحفظ من حكم السابقين أن الزمن لا يقف محايداً ؛ فهو إما صديق ودود، أو عدو لدود، وهذا ما جعل يكتب لأبناء هذا الجيل كتابه القيم "الوقت في حياة المسلم".
ولم يكن الشيخ ليعظ غيره مهملاً نفسه، بل كان من أشد الناس حرصاً على وقته، فلا تراه إلا محاضرا أو متحدثا، أو مناظرا أو مسافرا، أو كاتبا أو قارئا، لا ينفك بأي حال من الأحوال عن هذه الأمور.
ومع كثرة ترحاله وأسفاره؛ لا يلبث أن يفاجئ الجميع بالجديد في أمور الدعوة، مرة بكتاب في حلة جميلة، وأخرى ببحث في ثوب قشيب، وثالثة بمحاضرة هنا أو هناك، ورابعة بإطلالة من خلال قناة فضائية ببيان ينشر، أو موقف يذاع، أو كلمة حق انتظرها الناس، أو مظاهرة سيرها بنفسه، أو دعا إليها عالمه الإسلامي الذي يعيش في أعماق قلبه.
وأود هنا أن يعيش القارئ معي يوما واحدا من أيام الشيخ؛ الذي أتعب نفسه وجسده، وأتعب محبيه ومتابعيه؛ بل مبغضيه وشانئيه.
يوم رمضاني
هذا اليوم هو يوم الأربعاء الموافق 19 رمضان1427هـ، الموافق 1/ 10/ 2006م، كنت يومها في مكتب فضيلة الشيخ، ومعي إخواني الذين يعملون في مكتب الشيخ، وكان حضور الشيخ للمكتبة في هذا اليوم بعد الساعة التاسعة صباحا، وقضينا هذا اليوم الرمضاني مع فضيلة الشيخ نمارس أعمالنا، والشيخ في مكتبه يطالع كتبه، ويسطر بقلمه ما فتح الله عليه به، ويرد على الهاتف إما مجيبا على سؤال، أو مطمئنا على متحدثه، وبين يديه عدد من كتبه التي تحت الطبع، ومنها: "رد إسلامي على البابا بنديكت السادس عشر وتطاوله على الإسلام" و" فقه الجهاد" ... وغيرهما، ينظر في هذا ويراجع ذلك، وهو بين هذا وذاك يختلس بعض الدقائق ليطالع كتب التفسير، ليعد تأملاته وخواطره حول القرآن الكريم - والتي يلقيها يوميا في مسجده ( المسجد الكبير بالدوحة) ومنذ أكثر من أربعين عاماً.
وظل الشيخ هكذا لم يفارق مكتبه حتى اقترب موعد الإفطار، ثم دخل الشيخ قبيل المغرب ليريح هذا الجسم الذي أتعبته نفس صاحبه، ولم تمر سوى ساعة أو يزيد؛ حتى كان الشيخ ذو الثمانين عاما في الصف الأول مصليا العشاء والركعات الأربع الأول، ثم ابتدأ في تأملاته وخواطره بعد أن جثت حوله الركب، وزحف إليه المصلون، ساكنة أسماعهم، خافتة أرواحهم، فأنصتت أسماعهم، وبهرت قلوبهم؛ بما عند الشيخ من لغة جميلة وعرض رائع، ولهجة صادقة، ولسان فصيح، وأسلوب رصين جميل، وصوت قوي معبر، واستمر الشيخ في تأملاته نحو أربعين دقيقة.
وما أن انتهى الشيخ من تأملاته حتى دلف إلى محرابه ليؤم جموع المصلين؛ تاليا ما تيسر له من كتاب ربه بصوته القوي، ولهجته الصادقة، وتفاعلاته غير المتكلفة.
محاضر في ثوب جديد
ولم يستطع الشيخ أن يكمل صلاته ( الوتر) فخرج مسرعا، لا ليريح جسده، ولا ليأخذ قسطا من الراحة – أرى من الواجب أن يأخذه – وإنما ليركب سيارته، بعد أن بدل فيها ملابسه، ووضع عمامته( فلكل مناسبة حلتها)، حيث كان الشيخ على موعد ثان في تمام الساعة والنصف في مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، وإلى هناك حث الشيخ سائقه على الإسراع مخافة التأخير، فأسرع السائق الخطى، وجد في السير، وما هي إلا دقائق معدودة؛ حتى أطل الشيخ بوجهه السمح تعلوه بشاشة مشرقة، ليلقي محاضرة كان عنوانها: (كيف نربي أبناءنا تربية إسلامية صحيحة) طوّف فيها الشيخ بالجمهور الكريم، حول معان عدة، فعرف التربية، ثم أوضح ما المقصود من التربية الإسلامية، وعدّد الشيخ أنواع التربية الإسلامية المطلوب توافرها للنشء، واستمر الشيخ متحدثا كأنما يقرأ من كتاب، أو يغرف من بحر، واستمرت المحاضرة ساعة لا تقل، بل تزيد بضع دقائق.
رحمة للعالمين
وطلب المنظمون للمحاضرة من الشيخ أن يجلس دقائق يلتقط فيها الشيخ أنفاسه، فاعتذر الشيخ لارتباطه بعمل ثالث! إذ كانت جمعية البلاغ الثقافية - والتي يترأس الشيخ مجلس إدارتها- قد دعت إلى احتفالية كبرى يتم من خلالها جمع تبرعات لاستكمال مشروع ( رحمة للعالمين)، الذي دعا له الشيخ بعد الإساءات التي نشرتها إحدى المجلات الدانماركية منذ ما يزيد على عام تقريبا.
وكان الحضور على موعد، والحفل على انتظار، ودخل الشيخ القاعة، وجلس يلتقط أنفاسه، ويستجمع قواه، ليبدأ في محاضرة ثالثة، ربما تخيل البعض أن الشيخ لن يطيل فيها، نظرا لتأخر الوقت، وطول برنامجه الليلة، المتصل بعمل النهار؛ لكنه تكلم فأطال، ولك أن تتخيل أخي القارئ أن المحاضرة استمرت قرابة الساعتين، ربما تعب المستمعون، لكني أزعم أن الشيخ لم يتعب.
وابتدأ الشيخ كلمته بوصف ما جاء علي لسان البابا وغيره من الرسوم المسيئة بأنها أكاذيب لا تستحق الرد عليها من عالم.
وأشار الشيخ إلى أن الكثير من غير المسلمين لم يفهموا الإسلام، ولم يعرفوا حقيقة الرسول صلي الله عليه وسلم، ولا سيرته العطرة، وأن لديهم صورا مشوهة نقشت في رؤوسهم إلى من القديم وإلى اليوم.
وأوضح فضيلته أن هذه الإساءات ليست جديدة، وان الرسول صلي الله عليه وسلم أوذي في سبيل نشر الدعوة، وتحمل الكثير من العنت 13 عاما، وحينما عاد إلى مكة منتصرا لم ينتقم وقال قولته الشهيرة: ماذا تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. قال: اذهبوا فانتم الطلقاء.
وأوضح الشيخ في كلمته هذه: أن المسلمين مطالبون بتعريف الناس في الغرب سيرة محمد صلي الله عليه وسلم، والرسالة الخالدة، وأرجع الشيخ في ذلك لكون رسالة الرسول صلي الله عليه وسلم عالمية، وهو الرسول الوحيد الذي أعلن عالمية الرسالة، وخلودها.
وما أن أنهى الشيخ كلمته حتى عجت القاعة بالتصفيق، والتكبير، والدعاء والثناء، لشيخ هذه الأمة، وعالمها الذي أتعب من يأتي بعده، ولا أملك إلا أن أقول:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مُرادها الأجسام
اللهم أدم شيخنا بعافية في دينه ودنياه، وفي نفسه وماله وأهله، واحفظ عليه صحته، وقوي له ظهره، وأعنه على حمل ما كلف به، واجعل له نورا يمشي به في الدنيا، ويحيا به في الآخرة، وارزقه شهادة في سبيلك كما يتمنى. اللهم آمين آمين...
أكرم كساب.