عن مجلة النور اللندنية
الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في عيون ابنته
للاقتراب من الأجواء التي كان يعيشها محمد بن عبد الكريم الخطابي مع أسرته، وللتعرف أكثر على جوانب من حياته الشخصية، والمواقف التي تميز بها، التقت «النور» السيدة عائشة الخطابي، ابنة الأمير الراحل، وأجرت معها الحوار التالي:
> ما الذي كان تعنيه منطقة الريف بالنسبة للأمير الخطابي؟
- نستطيع أن نقول إن كل جهاد واجتهاد الخطابي كان يصب في خدمة المغرب، والريف بصفة خاصة. وكان شمال إفريقيا - أيضا- بمثابة بلد واحد في تصوره. ولذلك ينبغي أن يذكر الريف، في نظري، قبل ذكر الخطابي في أي حديث. ومن هنا كان عدد الجزائريين الذين كنا نستقبلهم في دارنا يفوق عدد المغاربة، اذ كان الوالد بمثابة والد لهم. فالخطابي كان يهتم بكل المغرب العربي، وكان يؤمن بوحدته. لكن بعد استقلال المغرب والحيف الذي وقع على المنطقة، وما تعرض له أبناؤه من خطف وقتل، تحوّل الريف إلى مركز اهتمامه الأول، بخاصة بعد انتفاضة 1958.
> معروف أن الأمير كان منشغلا بقضايا التحرير، فهل كان لديه وقت يخصصه للاهتمام بأولاده؟
ـ لم يكن للوالد وقت حتى لتناول غذائه، وقليلا ما كان يتناوله مع أفراد أسرته، فقد كان منزلنا الصغير في القاهرة منقسما إلى قسمين باستمرار، قسم للوالد وضيوفه، وبصفة خاصة المغاربة والجزائريين والتونسيين والليبيين وغيرهم من مناضلي الحركات التحررية العربية والإفريقية. وكان القسم الآخر مخصصا لنا نحن أفراد أسرته، وكان هناك باب خاص بنا. لكن الأمير كان لا يذهب إلى النوم حتى يطمئن علينا جميعا.
ونظرا لانشغالاته الوطنية، واهتماماته السياسية، لا أتذكر أنه سافر معنا في عطلة من العطل التي كنا نقضيها على البحر الأحمر كل صيف. وكنا نمشي معه فقط إلى عمنا امحمد. ولهذا لم تكن حالتنا العائلية حالة العائلة العادية، لكن زوجتيه كانتا تتفهمان الأمر، وكذلك أبناؤه البالغين. ورغم ذلك فلا يكاد يمر يوم دون أن يسألنا عن دروسنا وأحوالنا وهمومنا.
> وهل كان الأمر كذلك في جزيرة لارينيون؟
ـ حتى في لارينيون كان قليل الاجتماع مع الأبناء، لأن تلك ثقافة أهل الريف، فالرجال أكثر تواصلا مع بعضهم بعضا من تواصلهم مع أبنائهم. فقد كان الوالد يجتمع بأخيه امحمد، ومع عمه عبد السلام، وباقي مرافقيه الذين رافقوه إلى منفاه، من أجل الترويح عن النفس وتدبر شؤون الأسرة ومعاشها.
> كيف كانت حياة الخطابي وحياتكم معه؟
ـ كان الأمير لا يحب أن نعيش فوق مستوى معيشة الناس. فرفض- مثلا - أن يسكن القصر الذي قدمه له الملك فاروق العام 1947 ولم يبق فيه إلا شهرين ثم اسكننا في منزل صغير في حدائق القبة في القاهرة. كانت حياتنا بسيطة جدا، فبيت مكتبه واستقباله في آن، لم تكن تتجاوز مساحته 4 على 3 أمتار! وكان يرفض تعليق الثريات في منزله مادام المغاربة وجميع المسلمين لا يستطيعون اكتساب أمثالها. وكان الوالد يتصدق بالهدايا التي تأتيه من أنحاء العالم، ولا يقبل هدايا من نوع السيارات الفارهة. أما المال الذي كان يصله من مختلف الجهات، باستثناء المغرب، فيوزعه منحا على الطلبة أو ينفقه على التدريبات العسكرية. ولباسه كان بسيطا جدا، عبارة عن جلباب من اللون الكاكي، وعمامة بيضاء، ونعال مغربية. ولم يثبت عنه أنه لبس جلبابا حريريا أبدا، رغم أنه كانت تأتيه أنواع منها من المغرب. وكانت لا تغره الحياة الدنيا، ولو استغل ما كان يقدمه له الملك فاروق لحسابه الخاص لكانت ثروته خيالية. ولكنه، مع ذلك، لم يكن يرفض الحد الأدنى من امتلاك التقنيات الحديثة كالراديو والتلفاز.
ولم تكن نظرته للمال سلبية، إنما كان زاهدا، وكان من أولياء الله، فالوالد لم يكن يقبل الكسالى، بل يحترم ويمجد الذي يكسب المال بجهده وعرقه، ويحترم أكثر من ينفق ذلك المال في ما يعود عليه وعلى مجتمعه بالخير، فهو يعتبر المال والبنون زينة الحياة الدنيا. وفي بعض الأحيان كان يقال لي: أنت ابنة الأمير وتحبين المال؟ فهذا ميل فطري في الإنسان.
كان الوالد ينام عادة في الثانية عشرة ليلا ويقوم لأداء صلاة الفجر. ثم ينام ليستيقظ في السابعة صباحا. وكانت الريفية اللغة التي يتكلم مع داخل أسرته.
> كيف كان تدينه ونظرته للدين؟
ـ كان الوالد مثالا رائعا للمتدين الصحيح الذي فهم دينه جيدا، وكان يحثنا دوما على الصلاة، ولم يكن متعصبا أو مغاليا في الدين. فكان يطلب من المريض أن يفطر، وفي أيام رمضان- ونحن صغار- عندما كانت درجة الحرارة تصل إلى 48 كان يأمرنا بشربة ماء. وكنا نلبس لباسا أوروبيا شرط أن يكون محتشما. أما والدتي فكانت تلبس لباس أهل الريف الذي كان يوافق فلسفة الإسلام في الزي.
غير أن ما بقي راسخا في ذاكرتي عن مفهوم الإسلام عند والدي هو تركيزه الشديد على المعاملة، فكان يمقت النميمة والإضرار بالناس، وكان تركيزه أشد على العدالة ورفض الظلم.
> نريد أن تحدثينا عن علاقة أفراد الأسرة بالدراسة وطلب العلم عندما كنتم في القاهرة؟
ـ بعد البكالوريا دخلت الكلية الأميركية للبنات. وكنت أعرف أن والدي لن يسمح لي بولوج الجامعة المختلطة، فهو لا يعجبه الاختلاط كثيرا مع الناس، وفي هذه الكلية تعلمت اللغة الإنكليزية.
من ناحية أخرى، كنا نتلقى في المنزل دروسا في اللغة العربية والإسلاميات، خاصة القرآن والأحاديث النبوية. كما كنا نقرأ وندرس «البردة» (الأمداح النبوية).
وكان حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، يبعث إلى أبي ببعض الأساتذة من الإخوان من أجل تدريسنا، ومن بينهم أستاذ اسمه الشيخ أحمد موسى، وهو عالم أزهري، كان يدرسنا التفسير والعقائد. وكان والدي يحثنا على حفظ بعض القواعد في العقائد، وكان يفضل أن نحفظها بأكملها قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى.
> كيف كانت علاقته بالقراءة؟
ـ كان الأمير كثير القراءة، ومكتبته غنية تضم في غالبها كتبا دينية كثيرة، كتفاسير القرآن المتنوعة. وإضافة إلى الكتب الدينية كان ينجذب كثيرا لقراءة الكتب المتعلقة بسير الأعلام، فقرأ، على سبيل المثال، سير كل من أتاتورك، وهتلر ورومل وهوشي منه وماوتسي تونغ وتشي غيفارا وليوطي (رغم أن الخطابي كان عدوه الأول)... وكان يستمع للراديو، بخاصة إذاعة الـ BBC، التي ساعدته على متابعة الأحداث الإقليمية والدولية. من جهة ثانية، كان في حوزة والدي كتابان في الطب التقليدي، فاهتمامه بالطب الطبيعي كان كبيرا. وأذكر أنه في إحدى المرات فقدت كل شعري، وذهبت إلى أكبر طبيب في أميركا من أجل العلاج، لكن دون جدوى! وأعطاني والدي وصفة طبيعية كانت بإذن الله شفاء لي مما كنت أعاني منه. وكان الأمير، في يوم من الأيام، على فراش الموت، إذ كان مصابا بسرطان البنكرياس، وأخذ وصفة من الطب التقليدي تضمنت حليب الجمل وأشياء أخرى، فعاش بعد ذلك سنين عدة. قراءته أسعفته كثيرا في الاعتماد على النفس في العلاج والتطبيب.
> وماذا عن الأمير والفن والترويح عن النفس؟
ـ كان يعشق الاستماع للمدائح النبوية، وكانت تعجبه الموشحات الأندلسية بخاصة «شمس العشي»، حيث كان كثير السماع لها، وكان ينشد هذه الموشحة. إضافة إلى أنه كانت تعجبه الأغاني الريفية ويرددها كثيرا. وكان الأمير يضحك كثيرا، وكان اجتماعيا، وكان عاديا في أكله، وكان يكثر من أكل العدس.
> من هي الشخصيات السياسية المغربية والعربية والإفريقية التي كانت تتردد على بيت الأمير في القاهرة؟
ـ من المغاربة عبد الخالق الطريس، خصوصا عندما كان سفيرا للمغرب في القاهرة، وعلال الفاسي والمهدي بنبركة والمحجوب بن الصديق والحسن الوزاني وعبد الله إبراهيم والفقيه البصري... وشخصيات مغربية أخرى. ومن الجزائريين أذكر: أحمد بن بلة والشاذلي المكي ومزغنة... ومن تونس: صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة... ومن مصر كان يتردد على منزلنا الشيخ حسن البنا، اذ كانت علاقته بوالدي علاقة رائعة جدا، ومصطفى النحاس باشا ومحمد نجيب الذي كان من أقرب الناس إلى الأمير، وجمال عبد الناصر، وإن لم تكن علاقته قوية بالأمير، والملك عبد العزيز آل سعود والملك إدريس السنوسي... وشخصيات عربية وإفريقية أخرى.
> هل كانت مسألة عودتكم إلى المغرب تشغلكم كثيرا عندما كنتم في مصر؟
ـ النقطة الثابتة والمحورية التي سكنت عقولنا ووجداننا في مصر هي العودة إلى المغرب. هذا أكيد.