إنما المساجد لذكر الله وحده
قبل سنوات دُعي عدد من المفكرين الموصوفين ـ خطأ ـ بالإسلاميين إلى مؤتمر لبحث ما سموه: (رسالة المسجد).
وكالعادة تسابق المدعوون إلى الانتفاع بغنائم المؤتمرات العاجلة: السفر والإقامة المجانية، والتطلع إلى غنائم المؤتمرات الآجلة وأهمها: الوظيفة في المؤسسة ـ التي يُتوقع أن تنشأ كالعادة لتحقيق نتائج المؤتمرات وتوصياتها ـ لصالح الفرد أو حزبه:
أ ـ ولضمان الوصول إلى هذه الغايات حرص المفكرون ـ والفكر غير الوحي؛ فلا يجوز نسبته إلى الإسلام على ما يلي:
1ـ استعراض مؤهلاتهم وخبراتهم والرمز لها بحروف تسبق أسماءهم، مما يذكِّر بقول بعض العابثين إن ـ أ ـ تعني: أحمق، و ـ د ـ تعني: دجال.
ولئن نزهنا أكثرهم عن تهمة الدجل؛ فالحمق ليس ببعيد عمن يحرص على استعراض لقبه الدراسي مما ترفع عنه علماؤنا الأعلام جميعاً رحمهم الله.
و المسلم ـ بل والكافر ـ لا يظن فكره وعمله إلى على الهدى في أغلب الأحوال؛ فقد قال الله تعالى عن أكثر خلقه ضلالاً وكفراً: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} [الأعراف: 30]، وقال تعالى عن أمثالهم: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف: 104]، ولكن تزكية النفس وادعاء العلم والتفاخر بالمظاهر والألقاب المستوردة مخالفة للشرع والعقل والخُلُق، واستعاضة بالألقاب والرموز الرخيصة عن المراقي العالية لعلوم الشريعة.
وللقارئ أن يرجع إلى البحث العلمي الفريد للشيخ/ بكر بن عبد الله أبو زيد بعنوان: (تغريب الألقاب العلمية)، وقد كتبه بعد حصوله على درجة العالمية (الدكتوراه)، وأصرَّ على رفض إلصاقها باسمه، شفاه الله وعافاه ورفع درجاته في الدنيا والآخرة.
2ـ حشد أكبر عدد من المهمات التي يعتقد المفكرون والحركيون أن المسجد أُسس لخدمتها، ظناً منهم أن أي استخدام للمسجد ـ رخصة ـ في عهد النبوة؛ دليل صريح على فرض استخدامه للغرض نفسه إلى قيام الساعة، وإلا وقعت الأمة والولاية بخاصة في الإثم؛ لأنها ـ كما يقولون بلغة الصحافة الدارجة ـ: (أفرغت المسجد من محتواه فلم يعد يستعمل إلا للصلاة).
ب ـ ولم ينتبه المفكرون الغافلون إلى أن المساجد إنما أذن الله ببنائها للصلاة، وما تشتمل عليه من ذكر لله وتلاوة لكتابه، وأن استعمالها لغير ذلك من الأمور المباحة إنما كان رخصة للحاجة.
وليس من دواعي الشرع ولا من دواعي العقل ما يوحي بالدعوة إلى إلغاء مباني المعاهد العلمية، ودور الضيافة والمؤسسات العسكرية والأمنية، وقاعات الاستقبال والمؤتمرات اكتفاء بمبنى المسجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وعلى آله وعلى أتباع سنته وسلم ـ رخص ـ بقوله أو فعله أو تقريره ـ في النوم، وعقد أولوية الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا، وربط الأسير، واستقبال الوفود، بل ولعب الأحباش المباح في المسجد ولا شك أن المفكرين الموصوفين بالإسلاميين لن يخالفوا العلماء بشرع الله في ذلك لو أنهم خرجوا عن مألوفهم فربطوا النتائج بالمقدمات، واستفادوا من فقه أئمة الأمة في نصوص الوحي، ونبذوا الفكر واعتصموا بالوحي، واتبعوا منهاج النبوة المعصومة وسبيل المؤمنين من الخلفاء الراشدين والصحابة والتابعين.
ج ـ ولو أنهم خالفوا نهج بني إسرائيل في تحديد أوصاف البقرة التي أمرهم الله بذبحها، واكتفوا بما بينته آية واحدة وحديث صحيح واحد؛ لكفوا المسلمين عنت النفقات والأوقات والجهود التي صرفت لتوضيح أمر واضح، وبالتالي الخروج به عن حدود شرع الله، قال الله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن» [رواه مسلم]، والصلاة ذكر لله وقراءة للقرآن؛ قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 4]، وقال الله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 110]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن» [رواه مسلم].
ولكن الحركيين الحزبيين اعتادوا ـ على حين غفلة من أولي الأمر في بلاد الإسلام ـ اتخاذ المساجد مفارخ للحزبية (الإسلامية) المبتدعة، والفتنة بين الشباب وجماعة المسلمين ومن ولاه الله أمرهم وراء جدران دور تحفيظ القرآن المحدثة التي صارت جزءاً لا يكاد ينفصل عن مبنى المسجد.
والقرآن مكانه المصلى ليستفيد الجميع من مدارسته؛ فما الحاجة إلى عزله عنه؟ وأهم من تحفيظ القرآن تدبره؛ فهو السبب الأول والأهم لنزوله؛ قال الله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، ومع ذلك لا ذكر له في فكر الحركيين ولا في تنظيمهم التربوي إذا انشغلوا عنه بالتحفيظ والتجويد جرياً على عادتهم الفاسدة: شغل الأمة بالمهم عن الأهم.
هدى الله الجميع لأقرب من هذا رشداً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا عبد الله ورسوله محمد وعلى آله وصحبه ومتبعي سنته