قبل سنة وشهرين تقريبا كنا منشغلين بهدم الجدران الداخلية لما كان سيكون المقر الأول لجريدة المساء. وهو شقة صغيرة لا تكاد تتجاوز مساحتها بالكاد 120 مترا مربعا. ووسط الغبار المنبعث من ركام الأتربة دار بيني وبين أحد الأصدقاء حوار حول الدمار الذي كانت تحدثه طائرات العدو الصهيوني بالجنوب اللبناني خلال ذلك الصيف القائظ.
كنت أتحدث بتوتر ظاهر عن همجية الإسرائيليين وتعطشهم للدماء ونهمهم الوحشي للتدمير، بحيث لم تنج من مدافعهم وقنابلهم لا القناطر ولا البيوت ولا المستشفيات. ابتسم صديقي وقال لي أنني غاضب بسبب الخراب الذي حل بالبيوت والحيطان في جنوب لبنان، والمفروض أن أكون سعيدا من كون أن هناك شيئا أقوى من الإسمنت والطوب لم تستطع إسرائيل وجيشها المسلح بأقوى الأسلحة الأمريكية أن يدمره، وهو الكرامة وروح المقاومة والإيمان بالوطن والتشبث بالأرض مهما كلف ذلك من ثمن.
وأثار صديقي انتباهي إلى قضية خطيرة غابت عن ذهني، وهي أن التخريب والتدمير اليومي المقصود الذي تتعرض له الهوية المغربية والكرامة الوطنية للمغاربة هو أخطر بكثير من التدمير الذي تتعرض له حيطان بيوت جنوب لبنان بسبب القصف. فعادت بي الذاكرة إلى ذلك الحوار الذي قرأته ذات يوم في أحد الكتب، والذي يحكي عن حوار دار بين الطاغية نيرون وبين فيلسوفه.
فعندما وقف نيرون في شرفة قصره يتمتع برؤية روما وهي تحترق بكامل مجدها، كان يقف إلى جانبه مرافقه الفيلسوف. فسأل نيرون هذا الأخير كيف وجد منظر روما وهي تحترق فقال له الفيلسوف :
- إذا أنت أحرقت روما يا سيدي الإمبراطور فسيأتي بعدك من يعيد بناءها، ربما أحسن وأروع مما كانت عليه. لكن الذي يحز في نفسي هو أنني أعلم أنك فرضت على شعب روما تعلم شعر رديء، فقتلت فيهم المعاني. وهيهات إذا قتلت المعاني في شعب أن يأتي من يعيد إليها الحياة من جديد.
تذكرت هذه الحكاية التاريخية وأنا أتأمل حالنا نحن المغاربة اليوم. ففهمت أن ما وصلنا إليه من انحطاط ثقافي وأخلاقي ليست له أسباب مادية وإنما كل أسبابه مرتبطة بالتربية. أو بسوئها على وجه الدقة. يعني أن مشكلتنا الحالية في المغرب ليست اقتصادية ولا سياسية، وإنما هي مشكلة أخلاقية تربوية بالأساس.
فطيلة ثلاثين سنة من القمع والرعب قتل المسؤولون عن أمننا، أو عن رعبنا تحديدا، الكثير من المعاني في نفوسنا. قتلوا الوطنية التي هي جوهر بقاء الشعوب وتطورها، وحولوها إلى مجرد وسام تافه يعلقه بعض المخصيين وعملاء الاستعمار ولاعقي الأحذية في المناسبات الوطنية. أما المقاومون الحقيقيون الذين وهبوا أرواحهم لكي يعيش الوطن حرا فقد أطلقوا أسماء بعضهم على الأزقة، وفي الوقت نفسه فرقوا أبناءهم على الأزقة نفسها بعد أن أغلقوا في السبعينات المدرسة التي بناها محمد الخامس ليدرس بها أبناء الشهداء، وحولوها إلى مقر لشيء آخر. كان ذلك الإغلاق درسا عميقا لأبناء الشهداء الذين تعلموا منذ ذلك الوقت الباكر أن آباءهم ماتوا ربما خطأ في الوقت الضائع من مباراة الشرف.
قتلوا النخوة والكرامة في النفوس، وأرادوا تحويلنا إلى مجرد قطعان يسوقونها نحو المراعي طيلة النهار ويعيدونها إلى الحظيرة كل مساء. والنتيجة أنهم نجحوا في تربية أجيال من الخرفان يكفي أن تقود واحدا منها من قرنيه حتى يتبعه الآخرون مهرولين. ولا يهم إن كانوا يتجهون بأرجلهم نحو المجزرة، فالاحتجاج هو آخر ما تتعلمه الخرفان. وحتى إذا ما احتجت فغالبا ما يحدث عندما يقرب الجزار السكين من العنق، أي بعد فوات الأوان.
قتلوا الحب في النفوس، وتعهدوا بالرعاية حبا واحدا لا شريك له هو حب المال والسلطة والذين يدورون في فلكها. حتى أصبحنا بسبب المال نبيع أعراض بناتنا ونسائنا في أسواق النخاسة العالمية. وكم يشعر المرء بالغثيان عندما يقرأ عن وجود ستمائة فتاة جامعية مغربية يتعاطين الدعارة في خمارات تل أبيب والقدس مع اليهود.
لذلك أقول دائما أن أزمتنا الحقيقية هي أزمة ضمير وأخلاق قبل أن تكون أزمة اقتصاد وسياسة. الاقتصاد عندنا لا أخلاق له، لذلك تجد وزارة المالية تعطي الحق لشركات قروض الاستهلاك لكي تقتطع ديونها مباشرة من حسابات زبنائها بفوائد متوحشة. وترخص لشركات مشبوهة وممنوعة عالميا بالعمل في المغرب وابتزاز جيوب الناس، كشركات البيع الهرمي والتي فتحت فروعا لها في كامل التراب المغربي وخربت بيوت المئات من المغاربة بعقودها المبنية على التحايل والكذب.
السياسة عندنا لا أخلاق لها، وأغلب السياسيين يعطون نموذجا مسطحا وانتهازيا وجد متسلط لرجل السياسة. حولوا أحزابهم إلى مقاولات وشركات غير محدودة يستثمرون فيها أسهم النضال ويتاجرون بالقتلى والشهداء والجثث ومجهولي المصير للحصول على المزيد من المساهمين بين الأحياء. يوهموننا بأنهم يصالحوننا مع الماضي، في الوقت الذي يخاصموننا بشدة مع الحاضر.
حتى التربية والتعليم انعدمت فيهما الأخلاق وأصبحا مجالا للمزايدات النقابية الرخيصة، وأصبح مستقبل الأجيال مجرد ورقة ضغط في يد محتالين حزبيين همهم الوحيد هو تسلق السلالم الإدارية، حتى ولو كان ذلك فوق ظهور تلاميذ أبرياء.
وقد أحيانا الله حتى أصبحنا نرى كيف تعرض وزارة التعليم مدارسها العمومية للبيع، وتدافع عن ذلك أمام الرأي العام.
ولو أن نيرون يعود إلى الحياة وينظر عبر شرفة قصره إلى المغرب كيف تحترق فيه أعصاب المواطنين وسأل صديقه الفيلسوف عن رأيه في المنظر لأجابه :
- كم هم مشغولون بالبناء والتشييد وترميم الحيطان والأسوار، وفي الوقت ذاته يحطمون أهم جدار واقي يضمن أمن الوطن...
وكان سينظر إليه نيرون وسيسأله :
- عن أي جدار واقي تتحدث ؟
- جدار المعاني يا سيدي الملك. الشعب لا يحيا فقط بالخبز والماء الذي توزعونه عليهم، وإنما يحيا أيضا بالمعاني. وأنا أعلم أن جلالتكم تعرفون أن وزراءكم ورجال بلاطكم فرضوا على الناس تعليما رديئا، وسياسة رديئة واقتصادا متوحشا، فقد معها المواطنون الكثير من المعاني. لقد كرهوهم في أنفسهم وكرهوهم في وطنهم وكرهوهم حتى في الهواء الذي يتنفسونه. حتى أصبحت حياتهم في وطنهم بلا معنى. ولذلك تراهم يا سيدي كيف يجمعون حقائبهم كل يوم ويرحلون.
الحيطان والأسوار والطرق إن تهدمت سيأتي من يعيد بناءها من جديد، أما المعاني إذا ماتت في نفوس المواطنين فهيهات أن يأتي من يحييها ذات يوم من جديد...
ولعل أبلغ ما يلخص المعنى الذي نقصد إليه ما قاله محمود درويش في إحدى قصائده الرائعة حول موت المدن وخلود المعاني :
نيرون مات ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تموت
فتملأ الوادي سنابل...