اسمي سعيدة ، لا أعرف لماذا اختار لي أبي هذا الاسم ، عندما أتأمل وجهي الذي لا يفارقه الحزن في المرآة أقول مع نفسي بأن الاسم الذي يناسبني هو "تعيسة " ، وليس سعيدة !
عمري إحدى عشرة سنة ، لكن ملامح وجهي الشاحب تبدو كما لو أني تجاوزت هذا العمر بكثير . قد تعتقدون أنني الآن واحدة من تلميذات إحدى المدارس الابتدائية ، لكن الأمر ليس كذلك ، لقد انقطعت عن الدراسة منذ سنتين .
كنت تلميذة مجتهدة ومتفوقة في دراستي ، كنت دوما أحتل إحدى المراتب الأولى في لائحة الناجحين ، كل الأساتذة الذين درست عندهم كانوا يحبونني كثيرا ، أنا أيضا كنت أبادلهم نفس الحب ، كنت أحبهم لدرجة أن الأمنية الوحيدة التي كنت أتمناها هي أن أصبح معلمة عندما أكبر ، لذلك لم أكن أضيع وقتي في اللعب مع الفتيات ، ألعب معهن لوقت قليل فقط .
عندما أعود من المدرسة في المساء ، أصعد إلى سطح المنزل عند جدتي ، هناك أظل أراجع دروسي إلى أن تغرب الشمس ويبدأ الظلام في إسدال ستائره السوداء على قريتنا الصغيرة .
ما زلت أذكر أن الأستاذة رقية التي درست عندها في القسم الثالث سألتني ذات مرة قائلة :
- ما ذا تتمنين أن تكوني في المستقبل يا سعيدة ؟
وبعد ابتسامة خجولة أجبتها بصوت خفيض :
- أحلم أن أكون معلمة مثلك يا أستاذة رقية .
لكن حلمي ضاع ، وتبخر في الفضاء مثلما يتبخر الدخان الذي ينبعث من مداخن بيوت القرية في صباحات فصل الشتاء الباردة .
ضاع حلمي عندما جاءت عمتي التي تقيم في المدينة إلى القرية في عطلة الصيف . عمتي طلبت من أبي أن يسمح لها باصطحابي معها إلى المدينة كي أشتغل عندها كخادمة . عندما أخبرني أبي بالأمر بكيت كثيرا ، وتوسلت إليه أن يتركني أتابع دراستي في مدرسة القرية ، لكنه رفض ، وقال لي بأن الدراسة لن تنفعني في شيء . مسكين أبي ، لقد كان مخطئا في حقي ، سامحه الله .
في صباح اليوم الذي سأغادر فيه القرية في اتجاه المدينة رفقة عمتي ، جمعت ملابسي القليلة في حقيبة صغيرة ، وارتميت في حضن أمي باكية ، أمي أيضا كانت تبكي بحرارة لحظة وداعها ، المسكينة لم تكن ترغب أن أذهب إلى المدينة ، لكنها لا تستطيع أن تقف ضد القرارات التي يتخذها أبي .
عندما شغل زوج عمتي محرك السيارة الواقفة أمام المنزل جاء أبي وسحبني من حضن أمي ، وقال لي بصوت حاد :
- كفى من البكاء أيتها الجبانة !
ثم دفعني نحو السيارة وأغلق علي الباب . التفتت فرأيت أمي واقفة أمام باب المنزل تبكي ، أردت أن أهرب ، لكن باب السيارة كان مقفلا بإحكام .
في الطريق مررنا بجانب المدرسة ، وتذكرت أن الأستاذة رقية كانت قد وعدتني أنها ستأتيني بهدية عندما تعود من عطلة الصيف ، لأنني احتللت المرتبة الأولى على رأس الناجحين في القسم الثالث ، فانهمرت الدموع الساخنة من عيني بغزارة . عمتي نهرتني بحدة ، وأمرتني أن أكف عن البكاء وإلا ستضربني .
كتمت دموعي في صدري وأغلقت عيني ثم استسلمت للنوم ، وعندما استيقظت وجدت نفسي داخل منزل عمتي في المدينة .
في تلك اللحظة تحولت من فتاة صغيرة تحتاج لمن يرعاها ، إلى خادمة تعيسة . في تلك اللحظة ضاعت كل أحلامي الصغيرة ، وضاع حلمي الكبير بأن أصير معلمة . سامحك الله يا أبي .
عمتي توقظني في صباح كل يوم على الساعة السادسة ، تأتي إلى الغرفة الضيقة التي أنام فيها في سطح المنزل وتسحب عني الغطاء بعنف ، ثم تجرني من يدي . أحيانا عندما يغلبني النوم تأتي بماء بارد وترشه على وجهي ، فأقفز من الفراش مذعورة .
عمتي امرأة قاسية بلا قلب ، تعاملني بقسوة وكأنها ليست عمتي !
لكنها على أي حال ليست مسؤولة عن معاناتي وتعاستي ، أبي هو المسؤول .
عندما أفتح النافذة في الصباح وأرى التلميذات والتلاميذ ذاهبون إلى المدرسة ينتابني شعور عارم بالحزن ، فتسيل الدموع الدافئة من عيني الصغيرتين بلا توقف .
لقد كان ممكنا أن يتحقق حلمي ، وأصير معلمة عندما أكبر . لكن ...