ميشال فـوكو، جـاك داريـدا، جيل دولوز، ليوتـار، رولان بـارث وألان... «عنف الحلم، عنف المتخيل، عنف الاغتصاب تلك أهم ملامح ثورة ماي 68»
قد لا يصيبك الارتباك واللاتماسك وأنت تعلن بكل وثوق أن المرور من فكر الانسجام (الكلاسيكي) إلى فكر الاختلاف يمر حتما وضرورة عبر فكر الصراع (الماركسي) وأنك لن تتردّد في قول أن مخاطر الكلمة لمنطوقة يتمثل في كونها تهديدا بأن تكون بديلا عن التجربة الحية، التجربة الحية التي قد تكون داخل أسوار جامعة السربون كما يمكن أن تكون بين قضبان سجن أبو غريب أو معتقل غانتنامو لأن «إنتاج الأفكار والمفاهيم والوعي يتداخل تداخلا مباشرا مع العلاقات المادية للإنسان أي مع لغة الحياة الفعلية إذ ليس الوعي هو الذي يحدد الحياة بل الحياة هي التي تحدد الوعي»
وبما أننا نحاول أن نرصد بعضا من ملامح ثورة ماي 1968 فإننا يمكن أن نحدد التراكمات الموضوعية (الحياة ) التي أفرزت فلاسفة الاختلاف (الوعي): قضية دريفوس أو الطموح بجامعة شعبية/نقديّة خارجة عن الجامعة البونابرتية الرسمية، الإرث الديكارتي والكانطي ـ الوضعي والروحي معا ـ أو تحطيم أنصاف آلهة ما بعد الحرب: ماركس ونيتشه وفرويد، كما نعتهم ريمون آدون، قضية الجزائر وهنغاريا وقضية المنشقين السوفيات...
أو لنجمعهم تحت يافطة واضحة ونكتب عليها بأصابع ثابتة «السلطة ـ أيّا كانت ـ شر لا بد منه « هذه السلطة التي تغازلنا بشرانيتها وتأخذنا عنوة بكل أشكال سلطويتها متى عنَّ لها ذلك كانت دائما ـ وستظل ـ تتعامى عن كون سلطويتها هي المنبت الطبيعي لـ: »مواطن عنيد في فكره، مسلح بالتحدي، وفي تشكك مستمر حين يتعلق الأمر بنوايا ومشاريع وأهداف حاكمه « وهذا المواطن ارتسمت ملامحه بوضوح على طلبة الجامعة الفرنسية في ماي 1968 باعتبار أن «ثورة ماي 68 الطلابية هي أعنف وأكبر ثورة طلابية اجتماعية عرفها العالم الصناعي المتمدن»
إن الكتابة عن أحداث ماي 68 أو فكر فلاسفة الاختلاف ليست كتابة استرجاعية عاطفية تذكرية بقدر ما هي كتابة وجوبّية إلحاحيّة تتطلبها تغيرات نسقيّة تتواتر بشكل خيالي منذ التسعينات، وجوبيّة الكتابة يؤكده إمعان السّلطة في شرّها الاقتصادي والعسكري، خاصّة... السلطة الأمريكية أو الشر الصهيوني المتسربل بالصمت العالمي أو التواطؤ الخفي... وبدل قضية دريفودس والجزائر وهنغاريا والمنشقين السوفيات والإرث الديكارتي والكانطي... نقف اليوم أمام قضية سامي الحاج مثلا، والجدار العازل بفلسطين واحتلال العراق وتكتلات ماكدونالد والقواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في العالم، والزحف المرعب للحي الشّعثاء والعقول المتحجّرة القادمة من أدغال ومغاور كتب الشعوذة واللاهوت، وحتى من قلق أمريكا وروسيا من إيران النووية... وعودة شبح الحرب الأهلية للبنان... وعودة الكولونيالات البيضاء مثلما أسماها المفكر العراقي في كتابه الجديد بعنوان "ما بعد الاستشراف" وإذا كانت فترة الستينات احتملت الطلاء والدهن المرسوم على جدران الجامعات والسِّجَالات التي قامت بين الطلبة الثوريين وأساتذتهم غير البوليسيّين، فإن ما نعيشه في «الآن الحضاري» ـ الهمجي حتى لا أقول البدائي ـ لم يوفر حتى الفرصة الحقيقية لمعرفة الشكل الذي يمكن أن يكون وسيلة احتجاج أو مقاومة خاصة بعد اختلاط هذا المفهوم الأخير (المقاومة) بمفهوم الإرهاب...
وإذا كانت ثورة ماي 68 واقعة تحت سطوة بناء الحدث في آنه وعبادته، فإن ما تتطلبه المرحلة الراهنة هو بناء الإنسان /الإنسيّ، وقتل الحيواني فيه أي السلطوي المتسلّط على الفكر الإنساني الممتد من سقراط وصولا إلى نصر حامد أبو زيد وهذا الفعل لا يمكنه أن يتحقق إلا إذا تحولت الرغبة إلى حلم والحلم إلى رؤيا والرؤيا إلى واقع مقدّس يمتص كل مخاوف التمزق والتفكك والتي تتغذى في الوطن العربي مثلا من العنصر الإثني: البربر في الجزائر، الدروز في لبنان وسوريا، الأقباط في مصر، الإثنية المسيحية في السودان، قبائل الصّحراء المغربيّة...
إلى جانب صياغة نظرية في الإمامة العسكرية وطبعا الشكل الرابع في الكليانيّة(totalitarisme)، بعد الفاشيّة والنازيّة والستالينّية، هذا الشكل الرابع المتجسّد داخليا في نظام «الدولة/الحزب» وخارجيا في الأخطبوط الصهيوني المتغلغل في الجسد الجغرافي للوطن العربي.
إن مثل هذه الأسئلة التفكيكيّة لا تتطلب أجوبة جاهزة أو مخططات عددية بائـسة بقدر ما تـطـرح إمكانيات أجوبة ومشاريع نظـر هي حتما استمرار واستتباع لثورة ماي. فما الذي يمكننا أن نكتبه عن مـاي 68؟ عن جيـل الستينات، أو عن فلاسفـة الاختلاف، أو عن المثقـف /العالم المتخصص ( savant expert)، أو عـن السلطة التي مـاتت ولم تـمت؟!.
ميشال فـوكو، جـاك داريـدا، جيل دولوز، ليوتـار، رولان بـارث وألان... «عنف الحلم، عنف المتخيل، عنف الاغتصاب تلك أهم ملامح ثورة ماي 68»(4) ويمكن تلخيص مطلب جماعة ماي 68 في «إبداعية، عفوية، حياة» استنادا إلى شعار «الصراع أبو الأشياء» وهي تستهدف الحداثة الغربيّة وتوابعها: الحداثة البوليسيّة بدءا من الرأسمالي فالبيروقراطي فاليساري فعالم الاجتماع ـ الأستاذ... والمعرفة هي سلطة هذه الحداثة «أيها الأساتذة إن شيخوختكم توازي شيخوخة ثقافتكم. إن حداثتكم ليست إلا تحديثا للبوليس» بسبب هذه الشيخوخة، والتي تعني في أهم وجوهها العقم والانتهاء... تهاطلت بيانات 68 وهي «بيانات إغتصابية المتاريس barricade وهي رمز لاغتصاب الجامعة زهرة الحضارة الأوليغارشية»(5) وبدأت جدران الجامعة تغرق في الطلاء والكتابات العفوية والإبداعية...
كتابات شعارات على الجدران الإسمنتية تنطلق وتعود إلى فكرة الاغتصاب، اغتصاب الشيخوخة واللغة والجدران والخطاب... «اللغة قسر اجتماعي» «كل خطاب هو لا ثوري» أو كما يقول رولان بارث «كل خطاب هو فاشستي» كما اكتست بيانات ماي 68 بعدا تخيليا l’imaginaire: «الخيال يأخذ السلطة» ومن الخيال الذي يأخذ السلطة يصير الحلم حقيقة «أعلن حالة السعادة الدائمة» «الحب يأخذ السلطة» «انسوا كل ما تعلمتموه وابدؤوا بالحلم»، وهكذا تصير بيانات ماي 68 ذات البعد التخييلي أكثر سريالية «لتسقط الواقعية الاشتراكية ولتحيا السريالية» ويصير الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي والاقتصادي هو العدو الرئيسي الذي يجب محاربته لأن ذلك الواقع هو بالأساس واقع بوليسي سلطوي رأسمالي، في هذا الواقع حيث «لا يمكن للإنسانية أن تعيش حرة إلا حين يُشنق آخر رأسمالي بمصارين آخر بيروقراطي « وحيث «لن تصبح الإنسانية سعيدة إلا حين يُشنق آخر رأسمالي بمصارين آخر يساري» عندها يمكن أن يصير الواقع فضاء الإمكان أو فضاء المبالغة «المبالغة بداية الإبداع»، المبالغة لتحقيق الانفجار اللامنتظر تفضي حتما إلى التحرر:" إن تحرير الإنسان إما أن يكون شاملا أولا يكون» ولهذا تحرر طلبة ماي 68 من جدران جامعة السوربون «تحرروا من السوربون» ووفقا للشعار الباكونيني «الرغبة في التحطيم هي إيمان خلاق» رُفع شعار «لنحطم الجامعة» وبدأت سريالية الفعل الخلاق أو الرغبة في الحياة وفقا لجينيالوجيا التقويض والمقاومة لكل ما هو سائد وبائد، لكل ما هو واقعي بوليسي، وأخذت الشعارات المرسومة على الجدران شكلا مربكا للفكر الفرنسي في الستينات من قبيل «المقدس هو العدو» «ممنوع المنع» «لا أستاذ ولا إله، الإله هو أنا « «الامتحانات = عبودية، ترقية اجتماعية، مجتمع تراتبي» «لنحرق البضاعة» هذه الشعارات التي كانت تأكيدا للمدينة التي أميرها الطالب ورفضا للجامعة الطبقية الساعية للاندماج في نظام الإنتاج الرأسمالي جعلت الطلبة يسعون إلى تحقيق هدفين هما الاتصال بالعمال واحتلال الجامـعة ولعـل هذا البلاغ يؤكد فعلا عمق المقـاومة وسرياليّة الطمـوح في آن :" ليس هناك مطلـقا مشـكل طلابي إن مفهوم الطالب أصبح مفهوما رثا ... لنلغ أنفسنا كمسيرين مستقبلا ولنصبح عمالا " وهو ما تحدث عنه آلان تورين في كتابه «حركة ماي أو الشيوعية الطوباوية»حيث يقول عن هذا البلاغ وعن الثورة عامة «حركة ماي 68 خلقت في نفس الوقت الذي أنشأت فيه قوة مجابهة للطبقة المسيطرة، يوطوبيا مضادة تحررية ومعادية للسلطوية، جماعية وعفوية معا».
إن تداخل أفكار ماي 68 وتعددها حول السلطة والثقافة والفن والجنس والجسد والحب والعمل والحياة أمر طبيعي لتعدد «الجهات» الفكرية التي تسند أحداث 68 إذ يشير المؤرخ الفرنسي رينيه ريمون أن من بين الكتب المسؤولة رمزيا عن هذه الأحداث كتاب بيار بورديو وكلود باسرون «الورثة»، ويأكّد المحلل النفسي الفرنسي ديدي أنزيو علي الدور الذي لعبه كتاب جون بول سارتر «نقد العقل الجدلي» ويذهب ريمون آرون إلي كتاب هاربرت ماركوز «الإنسان ذو البعد الواحد» ولذلك أيضا اختلفت القراءات حول هذه الأحداث، فهي عند اليساريين «ثورة ثم إجهاضها»، وهي عند الحزب الشيوعي الفرنسي «مواجهة اجتماعية» وعند علماء الاجتماع «انفجار ثقافي» وقد اعتبرها ألتوسـيـر "أكبر إضراب في تاريخ الرأسمالية "بل إن ريجي دوبري وهو احد أهم مثقفي فرنسا عندما سئل في مجلة "لكسبريسيون" هل سيذكر التاريخ أحداث ماي 1968 أجاب أن أحداث 68 "تبقى مرجعا مهما للمرور من الأنتلجنسيا اللاتحريرية إلى الأنتلجنسيا الإعلامية، ومن اهتمام الإعلام بالعمل إلى اهتمامه بالإنسان، تراجع نقل الأخبار لصالح أطروحة فن التواصل، ظهور أبطال جدد مثل الصحافيين، والعاملين في الإشهار ومناضلو حقوق الإنسان، باختصار ظهور الإنسان الفقاعة، إنسان اللحظة، والذي هو ليس إنسان الحضارة" (