الزميلة هديل وهدان |
دبي - خالد عويس
في مخيم "جنين" ذهبنا للتصوير فصادفنا طفل في السابعة من عمره اندفع نحونا وهو يصيح "عمو.. عمو هاتلي ماما" وكانت أمه حينئذ مدفونة تحت أنقاض بيتها، هكذا شرعت مراسلة "العربية" في فلسطين الزميلة هديل وهدان في سرد حكايات لا تنتهي عن عملها في واقع يشجع فقط على الألم.
ولم تكن تجربة الأم الفلسطينية التي انتحرت بعد أن تم اغتصابها بواسطة الإسرائيليين أمام مرأى زوجها المعتقل في سجن "عسقلان" لانتزاع اعترافات منه إلا واحدة من القصص الحزينة التي تختزنها ذاكرة هديل وهي تكابد الوجع الفلسطيني اليومي وتحاول جاهدة نقله بصوتها المخنوق بالعبرات –أحيانا- إلى المشاهدين في كل مكان. تروي هديل حكايات باعثة على الألم عن الصراعات النفسية التي يخوضها الصحفيون هناك بين ما يرونه على الأرض من فظاعات وبين ضمائرهم الإنسانية وهي تتلوى ألما وتعاطفا مع الضحايا، وهي تقول إن العمل الصحفي بالنسبة للمراسلة الصحفية الأنثى في فلسطين يبدو صعبا على الرغم من أن الصحفيات الفلسطينيات اعتدن على "الوضع المأسوي" القاسي ومناظر الدمار ومشاهد القتل. لكن أحداثا بعينها ترسخ في الذاكرة ويصعب على الإنسان صحفيا كان أولم يكن أن يتناساها ويطردها من خيالاته. حين همت هديل بقص حكاية تلك السيدة الفلسطينية التي تركت 3 أطفال خلفها بالإضافة لزوج موقوف ، لم تسيطر إلا بصعوبة على دموع وجدت سبيلها لتبيّن حقيقة الآلام الرهيبة التي يواجهها الصحفي "الإنسان" في فلسطين. |
أشارت هديل إلى أن معظم حالات الاغتصاب تجري بداخل المعتقلات الإسرائيلية كطريقة وحيدة لإجبار الموقوفين على الإدلاء باعترافات عن زملائهم. وتضيف أنها عاشت صراعا نفسيا عندما علمت بنبأ وفاة زوجة أحد كوادر حماس الموقوفين مخلفة وراءها 3 أطفال. تقول هديل إنها توجهت إلى طولكرم بحثا وراء الحقيقة خصوصا أن زوج هذه السيدة كان مطلوبا بارزا لدى الإسرائيليين حتى تم توقيفه لاحقا. تفاجأت هديل حين وصولها إلى منزل السيدة المنتحرة بعدم وجود معزيين ولا سرادق للعزاء مما كان حافزا على السؤال والتدقيق غير أنها لم تحظ بأية إجابة. حين خرجت من المنزل علمت أن السيدة انتحرت فاتصلت من فورها بالزوج المعتقل في سجن "عسقلان" عبر هاتف هرّب إليه. تفاجأت هديل للمرة الثانية بالزوج وهو يحدثها عن زوجته "الشهيدة" قائلا لها "يكفي أنها ماتت طاهرة". إجابة الزوج شكلت علامات استفهام كبرى لدى هديل، خصوصا أنها شعرت بالغضب يغلي في دواخله على الرغم من أنها لم تر وجهه. لكن الزوج المعتقل لم يطل حيرتها إذ كشف لها عن استشهاد زوجته وهي تدافع عن عائلتها. ورجاها أن تعفيه من ذكر حكاية الاغتصاب وكيف تم لأنه يعتبر ذلك "تمثيلا بجثة زوجته". تقول هديل إنها شعرت بواجب مهني يدعوها لذكر الحادثة برمتها مع الاحتفاظ بالأسماء بعد أن استأذنته، لأن كثير من النساء الفلسطينيات المتزوجات بمطلوبين لدى الأجهزة الإسرائيلية يتعرضن لمثل هذه المواقف ويهربن من وجه الاغتصاب إلى الأردن. |
وضعت هديل فنجان القهوة ببطء وهي تداري دمعة فرت من عينها وكانت جالسة قبالتي في مقصف مجموعة MBC لتروي حكاية أخرى آلمتها، إذ توجهت كالعادة مع فريق التصوير لتغطية محاولة اغتيال فاشلة تعرض لها حسين أبوكويك _من حماس واغتيل لاحقا- لتجد أن سيارة من نوع "تويوتا" شبه متفحمة ومشطورة إلى نصفين بفعل قذائف أطلقت عليها من مروحية "أباتشي" إسرائيلية. السيئ في الأمر -كما تقول هديل- إن 3 من أطفال أبي كويك كانوا رفقة أمهم في طريق عودتهم من المدرسة ولم يكن أبوكويك نفسه معهم إذ كانت المعلومة التي سربت للإسرائيليين بوجود في السيارة خطأ. تضيف هديل أن المشهد كان بشعا بكل المقاييس، وكانت تفوح رائحة الدماء النفاذة من السيارة المعجونة. وتذكر هديل جيدا كيف استرعت انتباهها يد صغيرة ملقاة قرب السيارة. وقالت إن طفلين من بين الأطفال الثلاثة كانا عبارة عن أشلاء لا يمكن جمعها فيما أخرجت جثة الثالث (في الخامسة من العمر) إلى جانب الحقائب المدرسية والأقلام. لم تتمالك هديل نفسها حين واجهت الكاميرا فانخرطت في نوبة من البكاء المر لدرجة أن أحد زملاءها بادرها بالسؤال "هل هم يمتون إليك بصلة قربى". وتذكر هديل أيضا أن مذيعة "العربية" في الاستديو طلبت منها العودة لاحقا عندما لاحظت بكاءها لكنها أصرت على الاستمرار في تلاوة أسماء القتلى وتوقفت طويلا عند اسم "فراس" لتتبين لاحقا أنه الطفل الذي حمل إلى خارج السيارة. لم يبق لأبي كويك إلا بنت في الـ16 من عمرها. ولما ذهب فريق "العربية" للتصوير وجدوه متماسكا غير أن الصبية كانت منهارة ويغمى عليها في كل مرة. طلبت هديل من المصور أن يكف عن التصوير ليترك الفتاة في حالها. في الأثناء كان الوالد والزوج المكلوم يتحدث مع الأطباء وينسق للدفن. ذهبت هديل معه إلى ثلاجة الموتى فوجدت أشلاء لا ملامح لها في كيس أبيض. تقول هديل " شعرت ان من أوما في هذا الكيس كان إنسانا له أحلام وطموحات وئدت بلحظة". |
بعد ذهابي من المستشفى إلى البيت –تتابع هديل- كنت مترددة في أن أحكي لأمي "يرحمها الله". كنت أود التخلص من رائحة الدماء التي لاحقتني من هناك. ذهبت إلى الحمام، فلحقت بي أمي وكانت لا حظت على غير العادة اضطرابي وتشتتي. أفرغت قنينة عطر كاملة للتخلص من الرائحة. في اليوم التالي استطاعت هديل أن تغطي القصة لتدور كاميرا "العربية" مع الأب. وتوضح هديل أن القصة قد تبدو عادية ومكررة بالنسبة للكثيرين، إلا أنها تختلف كليا عند صحفي شهد التغطية ولامس جوانبها الحية. وتم اغتيال الأب فيما بعد كما تشير هديل، لكنها ظلت على علاقة طيبة بـ"آية" الصبية الوحيدة التي بقت على قيد الحياة بعد أن قضى الإسرائيليون على أمها وأشقائها أولا ثم قتلوا والدها. وتضيف أن هذه العلاقة تندرج في إطار دورها الإنساني لا الصحفي فحسب. ولن تنسى هديل أيضا اتصال طبيب فلسطيني من مستشفى رام الله يدعى موسى أبوحميد بفريق "العربية" في رام الله أثناء الاجتياح الإسرائيلي لمعسكر الأمهري في أبريل/نيسان 2003 ليبلغهم بإصابة بليغة تعرض لها طفل لم يتعد العامين. كان المعسكر ما زال يتعرض لنيران المدفعية الإسرائيلية ورام الله بأسرها تعيش أجواء الحصار. لم يدر بخلد هديل وزملائها أنهم سيشاهدون منظرا قاسيا في المستشفى حين انتقلوا إلى هناك لتغطية الحدث، فقد كان محمد الصغير ذو العامين غارقا في دمائه ويلفظ أنفاسه الأخيرة بعد أن فلق رأسه تماما لشطرين. لم تتمكن هديل من بث الصورة إلى المشاهدين لفظاعتها البالغة و"مرت قصته كأي قصة عادية" أضافت هديل وقد لمعت عيناها بالدموع مرة ثالثة.تقول هديل إنها متألمة لكون عذابات هذا الطفل إلى مماته لم يطلع عليها أحد. |