علي محسن حميد
06/05/2008
سيترك السيد لفينغستون ـ الذي أدار مدينة لندن بكفاءة لمدة ثماني سنوات ـ بصمات واضحة علي المدينة، وسيذكره سكانها كرجل تحديث وخادم لكل سكانها وليس للطبقة الثرية فيها. ولن ينساه أولئك الذين شاركهم استخدام المواصلات العامة ليكون قدوة لغيره وليزرع الثقة بها، ولكي يؤكد أن من مهامها تخفيف ضغط المرور والازدحام والتلوث في هذه المدينة الدائمة الجوع للسيارات. لقد بذل لفينغستون جل جهده في تنمية وتطوير خدماتها كعاصمة سياسية ومالية وثقافية عالمية، وخلق علاقة ثقة واحترام وتعايش بين مكوناتها الإثنية والدينية. هذه المدينة الآسرة ذات السر الخاص والملغز احتار في تفسير جاذبيتها وديكتاتوريتها المحببة سفير قطر السابق في لندن ناصر الخليفة، عندما تحدث عن المفارقة التي تحتاج لتفسير قائلا: هذه مدينة غالية جدا، ومناخها رديء وشعبها ليس دافئ المشاعر ومع ذلك الكل يحب العيش فيها، إن عملنا في هذه المدينة الكبيرة يشبه السخرة في بعض وجوهه من حيث كثرة الالتزامات الصباحية والمسائية، ومع هذا فلا أحد يشكو من العمل ولا من المدينة. كن الذي سمي (كن الأحمر) كان في حقيقة الأمر أخضر القلب، وردي الروح ومحبا للكل، ولم يكن يفرق بين سكان مدينته أو يستعلي علي أحد. وهو عكس مدير إدارة مدرسة هولند بارك المحافظ الذي كان من أولوياته إلغاء تعليم اللغة العربية في المدرسة ومضايقة أستاذها. كن فتح أبواب مقر العمودية للأقليات واستضاف المسلمين فيها في مناسباتهم الدينية. وكان من أهدافه إنهاء حالة الجفوة والغربة بين المدينة وأهلها من غير البيض. وقد كان بإمكانه أن ينجح أكثر فيما يخص علاقة العرب بالمدينة لو لقي التجاوب المطلوب من الجالية العربية. لقد نجح في أكثر من مجال رغم أن حزب العمال الحاكم وقف ضد انتخابه وطرده من الحزب، ومثل بعض الآباء لم يفق الحزب من غلطته إلا بعد أن أثبت كن أنه أنجح عمدة عرفته المدينة. كن كان ينظر إلي لندن كمدينة لكل ساكنيها وهو في هذا يتماهي مع مطالب عرب إسرائيل في أن تكون إسرائيل لكل مواطنيها وليس لطائفة اليهود وحدهم. كن الإنسان لم يتعصب لعرق أو لطائفة ولم ينحز لأغلبية سكان لندن البيض. ولم يتردد في توظيف السيخي والمسلم في دار العمودية ليشعر الناس أن لندن مدينة كوزموبوليتية حقا وليست مدينة تقصي بعض أهلها الذين يدفعون الضرائب ويساهمون في نهضتها مثل غيرهم. ومن حسن حظ لندن وجود جالية مسالمة كالجالية العربية، ليست طرفا في أي عمل إرهابي أو إجرامي. ولندن التي بناها الرومان قبل ألفي سنة لم تكن حتي السبعينيات هذه المدينة الحيوية التي تسمع عشرات اللغات في شوارعها ومتاجرها ومواصلاتها العامة. كان العربي إذا سار بلباسه الوطني يثير الدهشة والفضول، وكان ينظر إليه ككائن آت من المجهول. لندن كانت تنام بعد السابعة مساء ولا تفتح متاجرها إلا نصف أيام السبت ولا تفتحها أيام الأحد مطلقا، وقد عزا كن الفضل في حيويتها وتغير نمط حياتها للجالية العربية وبالأخص الجالية اللبنانية التي افتتحت مطاعم ومتاجر ووكالات خدمات في أنحاء كثيرة منها، وأوجدت حياة ليلية بعد أن كان اللندني يؤوب إلي منزله من العمل مباشرة مصداقا لمقولة تقليدية عن الإنكليزي تقول إن المنزل هو قلعته . لقد عملت في لندن في السبعينيات ودرست لعام في اكسفورد وكنت أزورها هربا من ملل أكسفورد ـ مدينة الطلبة والدراجات آنذاك ـ وأتذكر عندما كنت في السفارة اليمنية كيف احتار أحد الأصدقاء اليمنيين في إيجاد مطعم يأكل فيه وكيف استعمل لغة الإشارة في أحد المطاعم لكي ينقذ نفسه وعائلته من الجوع. اليوم هناك إيدجوير روود أو لندن العربية، التي تجد فيها وفي غيرها من الأحياء الحلاق والسمسار والصحف العربية اليومية والبقالة والصيدلية والمكتبة والقهوة والمطعم والبنك والمحامي ووكالات السفر والسياحة وجمعيات وطنية وقومية ومهنية وجالية عربية في مستوي تحديات هذه المدينة. وحتي العام 2006 كان ديوان الكوفة في منطقة كوينزوي ـ شارع ويستبورن غروف ـ المجاور لمكتبة الساقي، حيث كانت الفراشة الناعمة الهادئة الراحلة الملاك مي غصوب، يجمع العرب كل أسبوع للاستماع إلي محاضرة أو ندوة، وكان الديوان مكانا جميلا للمعارض الفنية أيضا. كان الديوان مكانا يلتقي فيه العرب ويتعارفون ويختلفون وينتقدون بدون خوف وفيه يتألم الإنسان علي استمرار الأسباب التي اضطرت هذه النخبة إلي ترك أوطانها هربا من قمع أو بحثا عن فرصة لا تتوفر في أوطانها. وفي الديوان كانت تبرز بشكل خاص خسارة العراق الكبري عندما تري نوعية وعدد العراقيين الذين كان وطنهم أولي بخدماتهم. في الديوان كان للقضية الفلسطينية نصيب في نشاطاته. وفيه عرفت المرحوم إدوارد سعيد واستمعت إلي المرحوم احمد صدقي الدجاني وحضرت تأبينه مع ماجد الزير وعفيف صافية، واستمعت إلي حنان الشيخ وهي تقدم روايتها إنها لندن يا عزيزي وإلي هيفاء زنكنة قبل الاحتلال الأمريكي للعراق وبعده، وإلي شعراء وروائيين عرب من المحيط إلي الخليج، وفيها احتفلنا بالذكري الستين لإنشاء الجامعة العربية مع عبد الوهاب بدرخان وعبد الكريم المدرس وكاظم الموسوي وعبد الحكم دياب وحسين شعبان ونيرة المختار والناشطة العظيمة مني النشاشيبي وهشام الصلح ومحمد زيان وسمير ناصيف وأحمد العثيم وصلاح غباشي وكثير غيرهم، وكانت سعادتي تكبر عندما تصحبني ابنتي ريم.. وهذا لا يعني أن كل العرب كانوا يحبون ديوان الكوفة، فقد وجد من يقاطعه بحجة أن صاحبه الفنان الدكتور محمد مكية طبع مع إسرائيل بذهابه إليها ولكن الدكتور برر ذهابه إليها بقوله إنه كان في مهمة علمية. كن لفينغستون أتي إلي عمودية لندن وفيها هذا الزخم العربي الذي لم يكن بإمكانه تجاهله، وهو إلي جانب يساريته وبراءته من العنصرية اهتم بدمج العرب والمسلمين في مدينتهم، وكان مثل الراحل روبن كوك وزير الخارجية الأسبق يري أن بريطانيا بلد متعدد الثقافات وأن طبق الماسالا أصبح طبقا بريطانيا. وعندما دعت الجالية الإسلامية عام 2004 الشيخ يوسف القرضاوي إلي لندن رحب به كن واستقبله رغم الاحتجاجات التي ربطت بين الشيخ وبين دعمه للإرهاب الفلسطيني . حينها كانت شعلة انتفاضة الأقصي لا تزال متوهجة وفي كامل فتوتها ومن كان يقف ضدها كان يقف ضد حق الشعب الفلسطيني في الحرية والوطن المستقل. وأتذكر أن صحافيا يهوديا بريطانيا من حزب المابام قال لي في كنيس سانت جونز: لا توقفوا الانتفاضة لأن إسرائيل لن تعطيكم أي شي إلا تحت الضغط. وإذا كان هذا هو رأي إسرائيلي فلماذا انتقد الشيخ علي موقفه وقامت القيامة اليهودية واليمينية ضد زيارته؟ صحيح أن للشيخ بعض الآراء غير الدقيقة عن الغرب مستقاة من مصادر سطحية جازف بالجهر بها في إحدي الفضائيات بسبب افتقادنا لاحترام ثقافة الآخر، كقوله بأن الشاب الغربي إن وجد برجا أو مكانا مناسبا للانتحار أقدم علي هذا الفعل بسبب تفسخ علاقات مجتمعه وانحلاله وتدهور قيمه، ولم يفطن الشيخ إلي أن ما نراه نحن انحلالا لا يعد كذلك في الغرب.. وقد انتهز السفراء العرب بلندن فرصة وجود عمدة كهذا فزاروه، وخلال الزيارة اقترح عليهم إقامة اسبوع ثقافي عربي في لندن في الصيف، حيث يكثر توافد البريطانيين إلي لندن وكذلك السياح، يشمل محاضرات وسينما وفرقا فنية عربية والطعام العربي ومصنوعات يدوية، وحدد سوق كوفنت غاردن للطعام والمصنوعات اليدوية، وتمت معاينة المكان ودرست بعض التفاصيل والمردود الإيجابي للعرب منه. وقد بلغ حماس أحد السفراء العرب إلي درجة القول بأنه مستعد أن يعد طعاما في منزله. هذا المشروع لم ير النور، ولو نفذ لكان بداية لأنشطة موسمية لن تتوقف. ولكي لا نبتعد عن السياسة وقضايانا وأسفنا علي هزيمة كن لفنغستون صديق العرب والمسلمين أذكر القارئ بأنه طالب في مقال نشرته صحيفة الإندبندنت بإجبار إسرائيل علي تنفيذ قرارات الأمم المتحدة لتنسحب من الأراضي التي احتلتها عام 1967عندما كانت بلاده والولايات المتحدة ومن لف لفهما (الجماعة الدولية زورا) تظهر الغيره والحسرة علي الشرعية الدولية التي داسها العراق بقدميه، وتطبل للحرب علي العراق لأنه ماطل وسوف في تنفيذ قراراتها. وكان من علامات تأييد كن للقضية الفلسطينية زيارته للمعرض التجاري الفلسطيني في غرفة التجارة العربية البريطانية في 30 /11 /2004، كل هذا أدي إلي أن يرشح خصومه السياسيون نائبته اليهودية لتنافسه في انتخابات 2005 ولكنها أدركت قلة فرص نجاحها فانسحبت. وفي انتخابات ذلك العام زار مرشح حزب المحافظين الملتقي الثقافي العربي ـ المصري في مطعم بإيدجوير رود تنظم فيه لقاءات شهرية لطلب تأييدها له. وتلك الزيارة كانت مؤشرا علي تنامي دور الجالية العربية الذي لا يزال في حقيقة الأمر دورا أقل من متواضع ولا يعكس حقيقة وجود حوالي نصف مليون عربي في لندن وحدها.. وكان هذا أول إدراك سياسي لأهمية دور الجالية العربية في الانتخابات، وبعد نجاح بوريس جونسون من حزب المحافظين ـ الذي قال إن له جذورا سورية ويهودية معا ـ يصبح من واجب العرب عدم ترك جونسون فريسة لأعداء قضاياهم ومؤيدي مغتصبي حقوقهم، وأتمني أن يكون للصديق الدكتور محمد وفيق مصطفي رئيس المجموعة العربية في حزب المحافظين دور في هذا الاتجاه شبيه بنشاطه الإعلامي في الفضائيات العربية، وأن تدخل الجالية العربية الأحزاب البريطانية لتكون عونا لأنصارها فيها، ولأن قضاياها لن تجد أحدا خيرا منها يدافع عنها، وأقصد في المقام الأول قضايا الجالية المرتبطة بالمواطنة البريطانية وتحديات المواطنة. كن لم ينهزم وحده فقد هزم حزب العمال وهزم رئيس الوزراء غوردون براون، والهزيمة الأكبر هي للسيد توني بلير رئيس الوزراء السابق لأنه أضعف الحزب وتسبب في خروج 400 الف منه بسبب حربه غير المشروعة علي العراق. ہ سفير الجامعة العربية السابق في بريطانيا |